أوكرانيا تدفع ثمن استمرار الهيمنة الغربية
تدخل الحرب الروسية الأوكرانية شهرها الرابع، دون إحراز نصر روسي حاسم يعزز أهدافها من الغزو والتي أعلنتها في بداية الحرب، اللهم إلا استيلاءها على بعض المدن في الشرق الأوكراني، وأهمها بالطبع ماريوبول وأجزاء كبيرة من إقليم دونباس، حيث تدور على أرضها معارك ضارية وقصف روسي مستمر للسيطرة عليها بعد إعلان موسكو سيطرتها على بلدة ليمان الاستراتيجية، ولكنها في الوقت ذاته تكبدت خسائر فادحة في الأرواح والعتاد؛ آلاف القتلى من الجنود الروس وتدمير مئات من المركبات العسكرية والدبابات، ولعل أبرز خسائرها في تلك الحرب هو تدمير أهم أساطيلها الحربية الطراد "موسكفا" (السفينة الرئيسية في الأسطول الروسي بالبحر الأسود)، والذي يُعد ضربة قوية للأسطول الروسي..
لم تتمكن روسيا من دخول العاصمة "كييف" واحتلالها وإسقاط نظام "فولوديمير زيلينسكي" الموالي للغرب ونزع سلاحه (وكان هذا هو أحد أهدافها من الحرب)، نظراً للمقاومة الشرسة والقتال البطولي للجيش الأوكراني الذي تصدى لهذا العدوان السافر واستطاع دحره خائباً، ما اضطر الجيش الروسي للانسحاب وتجميع قواته العسكرية والاتجاه بها نحو الشرق الأوكراني ليواصل غزوه. وقد تقدم ببطء واستطاع أن يحتل بعض القرى والمدن الصغيرة على الساحل، بعد أن دمرها تماما ولجأ فيها إلى سياسة الأرض المحروقة التي اتبعها من قبل في جروزني بالشيشان وحلب في سوريا..
لماذا أسرعت أمريكا بإرسال أحدث الأسلحة إلى أوكرانيا أثناء المحاولة الروسية لغزو العاصمة واحتلالها ما مكن الجيش الأوكراني من الانتصار على روسيا في هذه المعركة؟ ولماذا توقفت أمريكا عن إرسال تلك النوعية من الأسلحة الحديثة لأوكرانيا الآن لتدافع بها عن أرضها في الشرق؟
وهنا يُطرح سؤال هام: لماذا أسرعت أمريكا بإرسال أحدث الأسلحة إلى أوكرانيا أثناء المحاولة الروسية لغزو العاصمة واحتلالها ما مكن الجيش الأوكراني من الانتصار على روسيا في هذه المعركة؟ ولماذا توقفت أمريكا عن إرسال تلك النوعية من الأسلحة الحديثة لأوكرانيا الآن لتدافع بها عن أرضها في الشرق؟ ولقد ذكرت بعض الصحف الغربية أن أمريكا لا ترسل لأوكرانيا أسلحة نوعية تحسم المعركة، وزيلينسكي ظل ينادي ويصرخ مطالباً بإرسال دبابات وصواريخ بعيدة المدى ولا مُجيب لندائه!
يُجيب الخبثاء وأنا منهم بأن الولايات المتحدة لا تريد لكلا الطرفين أن ينتصر على الآخر في المدى القريب؛ لإطالة أمد الحرب إلى أبعد مدى ممكن لأسباب جيوسياسية بحتة. فهي تريد أولاً تثبيت دعائم الهيمنة الأمريكية على العالم والحيلولة دون صعود أي قوة أخرى منافسة لها، فهي تحارب روسيا بالوكالة على أرض أوكرانيا دون أن تتورط بدخولها عسكريا وتنخرط في الحرب بجيشها..
لقد وقعت روسيا في المصيدة الأمريكية، وانزلق بوتين بغروره في الفخ الذي أعدته له أمريكا بحنكة وخبث شديدين، كما دُفعت أوكرانيا لحرب كانت في غنى عنها وكان من الممكن تفاديها؛ دمرتها وشردت شعبها وحصدت الآلاف من جنودها، لولا أن زيلينسكي بغبائه السياسي لم يدرك أنه لعبة في يد أمريكا استخدمته لتحقيق أهدافها، فلتحترق أوكرانيا كي تظل أمريكا القطب الأوحد في العالم، فالغاية هنا تبرر الوسيلة كما قال "ميكافيللي"، منذ أكثر من خمسمائة عام، إنها لعبة الأمم كما أسماها "مايلز كوبلاند" في كتابه، والتي لم يفهمها الممثل الكوميدي!
الولايات المتحدة لا تريد لكلا الطرفين أن ينتصر على الآخر في المدى القريب؛ لإطالة أمد الحرب إلى أبعد مدى ممكن لأسباب جيوسياسية بحتة. فهي تريد أولاً تثبيت دعائم الهيمنة الأمريكية على العالم والحيلولة دون صعود أي قوة أخرى منافسة لها، فهي تحارب روسيا بالوكالة على أرض أوكرانيا
إنه بلا شك فيه، أن الولايات المتحدة تريد أن تستنزف روسيا لأقصى درجة ممكنة، بعد أن أغرقتها في المستنقع الأوكراني؛ لإضعاف قدراتها العسكرية وإفقاد الجيش الروسي هيبته وسمعته وإظهار ضعفه وهشاشة أسلحته أمام العالم، فينفض الطلب عليه ولا يجد سوقاً لتسويقها وبيعها..
ثانياً، أنها تريد إضعاف قوة روسيا الاقتصادية، فالعقوبات الاقتصادية الشديدة وغير المسبوقة التي فرضتها هي والاتحاد الأوروبي على روسيا لن تؤتي أكلها في المدى المنظور، وإن حاول بوتين أن يتخطاها ببعض القرارات الاقتصادية الاحترازية والتعاملات في البنوك الروسية التي فرضها على رجال الأعمال والمستثمرين وضرورة التعامل بالروبل، كما فرض دفع قيمة النفط والغاز للدول التي أسماها "غير الصديقة" بالروبل الروسي، مما منع الروبل من الهبوط بل زاد سعره أمام الدولار الأمريكي عما كان عليه قبل الحرب، ولكن هذا لا يعني إنقاذ الروبل من السقوط في نهاية المطاف، وهو ما بدأ مؤشره يظهر بقوة مؤخراً، والذي مع مرور الوقت تتفاقم الأزمات الاقتصادية وتزداد معاناة الشعب الروسي ويضيق ذرعاً ببوتين الذي ورطه في هذه الحرب العبثية، ويقوم بثورة ضده ويزيحه عن الحكم، وربما في المدى البعيد وبعد أن تخرج روسيا منهكة من الحرب مكبلة بالديون والأعباء يتفكك الاتحاد الروسي كما تفكك الاتحاد السوفييتي سابقا، وبهذا تكون أمريكا قد حققت هدفها..
وهنا يحضرني قول السياسي المخضرم ومهندس الحرب الباردة، وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق "هنري كيسنجر" إنه "ليس من مصلحة أمريكا أن تحل أي مشكلة في العالم، لكن من مصلحتها أن تمسك بخيوط المشكلة وتحركها حسب المصلحة القومية الأمريكية"..
وإن كان ثعلب السياسة هذا (كيسنجر)، قد صدم أمريكا والغرب عامة مؤخراً بمداخلته بالفيديو في منتدى دافوس بقوله: "على الغرب التوقف عن محاولة إلحاق هزيمة بروسيا، ومن الخطر بمكان الانغماس في مزاج اللحظة ونسيان مكانة روسيا، وعلى أوكرانيا المفاوضات والقبول بالحلول"، أي تتنازل أوكرانيا عن إقليم دونباس وشبه جزيرة القرم لروسيا، على الرغم من أنه في مقابلة سابقة مع "فايننشال تايمز"، قال: "أخطأ بوتين في تقدير الموقف الذي واجهه بعد شنه الحرب على أوكرانيا وأخطأ في تقدير قدرات بلاده"، واسترسل بأنه لم يكن يتوقع هجوماً بحجم الاستيلاء على دولة معترف بها..
إذن ما الذي حدث للرجل العجوز لتغيير سياسته الاستراتيجية التي كان يتبناها من ذي قبل؟ هل بدافع السن، وهو الذي أصبح على عتبة المئة عام والتي يفترض فيها الحكمة والنصح والمهادنة وليس الإقدام والمجازفة بمعارك غير محسوبة وغير محسومة أيضا؟! وربما أخذ السياسي المحنك تهديد بوتين في الاعتبار وهو يطالب أوكرانيا بالتخلي عن أراضيها، عندما قال منذ ثلاث سنوات: "لن يكون هناك عالم بدون روسيا"، أو بمعنى آخر، "لماذا نحتاج هذا العالم إذا لم تكن روسيا موجودة به"، ومهددا خلال لقاء تلفزيوني باللجوء إلى السلاح النووي، وعاد وكرر تهديده قبل غزوه لأوكرانيا مباشرة خلال مؤتمر صحفي مع إيمانويل ماكرون..
من حق فنلندا والسويد أن تقلقا على بلديهما، وخاصة أن بوتين يزعم أن أوكرانيا لم تكن يوماً دولة بالمعنى الحقيقي، وأن زعيم الثورة البلشفية ومؤسس الاتحاد السوفييتي "فلاديمير لينين"، تسبب في تقسيم البلاد عبر الهيكل الاتحادي الذي أسسه على أنقاض الإمبراطورية الروسية، كما تسبب بضياع أراض روسية تحولت إلى دول منفصلة مع مرور الوقت
من الطبيعي أن يغضب زيلينسكي لتصريح كيسنجر مما دفعه للرد عليه بشدة، من أنه من الماضي السحيق ويذكره بأننا في العام 2022 ولسنا في 1938، عندما وقعت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا اتفاقية مع ألمانيا في ميونخ، منحت هتلر أراضي تشيكوسلوفاكيا، لإقناعه بالتوقف عن مواصلة التوسع..
نعم بوتين ليس بقوة وهيبة هتلر، ولا يمتلك الكاريزما ولا الشعبوية التي تؤهله لذلك، وإن كان الإعلام الغربي يحاول تشبيهه به دائما، وهو الآخر يحاول أن يظهر بالرجل القوي ويبدو في صورة قيصر روسيا الجديد الذي جاء ليعيد أمجاد إمبراطورية روسيا القيصرية، ولكن ليس العالم اليوم كما كان إبان القياصرة، والدليل أن السويد وفنلندا لجأتا إلى الولايات المتحدة تطالبان بالانضمام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهما الدولتان اللتان حافطتا على استمرار علاقة خاصة مع روسيا تبعدان فيها عن استفزازها، ولكنهما الآن تدخلان في اللعبة السياسية لحمايتهما من الدب الروسي الذي يريد أن يلتهم كل الدول المحيطة به والتي كانت ضمن إمبراطوريته القيصرية، ولم يلجآ إلى روسيا القريبة منهما ليقدما فروض الطاعة والولاء لها..
من حق فنلندا والسويد أن تقلقا على بلديهما، وخاصة أن بوتين يزعم أن أوكرانيا لم تكن يوماً دولة بالمعنى الحقيقي، وأن زعيم الثورة البلشفية ومؤسس الاتحاد السوفييتي "فلاديمير لينين"، تسبب في تقسيم البلاد عبر الهيكل الاتحادي الذي أسسه على أنقاض الإمبراطورية الروسية، كما تسبب بضياع أراض روسية تحولت إلى دول منفصلة مع مرور الوقت، وأنه أخطأ حينما منح الأوكرانيين استقلالاً داخل الاتحاد السوفييتي وتخلى عن أراض روسية يسكنها الشعب الروسي لأوكرانيا، فمن الطبيعي أن يساورهما الشك، فهما أيضا معنيان بهذا التصريح أو ينضويان تحت هذه الدول التي أنشئت عن طريق الخطأ حسبما قال. وما الذي يمنع بوتين أن يقول نفس الكلام حينما يغزوهما؟!
العالم اليوم يعيش في صراع الاستراتيجيات في ظل التنافس المحموم روسياً وصينياً لتشكيل نظام عالمي جديد يواجه الولايات المتحدة، والتي هي بدورها تبذل قصارى جهدها لاستمرار هيمنتها على العالم وتثبيت قواعد النظام أحادي القطبية بمرجعية غربية، والذي أنشأته منذ سقوط الاتحاد السوفييتي وسقوط جدار برلين
منذ بداية الحرب يحاول بوتين اختلاق الذرائع أمام العالم باستحضاره للتاريخ، ليبرر غزوه لأوكرانيا، والذي لا يعتبره غزواً، بل تصحيحاً لمسار خاطئ ارتكبه لينين!
إنه بلا شك منطق أعوج، فعلى أساس هذا المنطق البوتيني يكون من حق كل دولة في العالم غزو دولة مجاورة لها للعودة لحدود ما قبل الحرب العالمية الأولى أو ربما قبلها، فكل الدول القائمة بعد الحرب العالمية الأولى لها مشاكل حدودية مع الدول المجاورة، بل إن هناك الكثير من الأراضي الروسية كانت جزءاً من الدولة العثمانية، فمن حق تركيا إذن أن تستردها وتشن حرباً على روسيا!
خلاصة القول أن العالم اليوم يعيش في صراع الاستراتيجيات في ظل التنافس المحموم روسياً وصينياً لتشكيل نظام عالمي جديد يواجه الولايات المتحدة، والتي هي بدورها تبذل قصارى جهدها لاستمرار هيمنتها على العالم وتثبيت قواعد النظام أحادي القطبية بمرجعية غربية، والذي أنشأته منذ سقوط الاتحاد السوفييتي وسقوط جدار برلين في تسعينيات القرن المنصرم، وأوكرانيا هي إحدى ضحاياه ولن تكون الأخيرة بالطبع!
عربي 21