غورباتشيف: من البيرسترويكا إلى «البيتزا هات»
متهم في الداخل بإحداث أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين (حسب وصف بوتين لانهيار الاتحاد السوفييتي). محترم في الخارج لأنه أنهى أربعة عقود من الحرب الباردة دون إطلاق رصاصة واحدة. تلك هي تناقضات الموقف من ميخائيل غورباتشيف. تناقضات أجاد تصويرها الإعلان التجاري التلفزيوني الذي بث في أمريكا ولكن لم يبث في روسيا، والذي يظهر فيه غورباتشيف، عام 1997، مروّجا لمأكولات سلسلة المطاعم الأمريكية «بيتزا هات»… وهذه في حد ذاتها مفارقة تاريخية كبرى: أن يقبض آخر أمين عام للحزب الشيوعي السوفييتي أموالا مقابل الترويج الدعائي لإحدى أشهر شركات العولمة الرأسمالية! على أن الإعلان لطيف: تجتمع العائلة الروسية للأكل في المطعم فتأخذها الدهشة عندما تلمح، حول مائدة قريبة، غورباتشيف جالسا مع حفيدته وهو يناولها قطعة البيتزا الشهية. يهتف الشاب: إنه غورباتشيف! فيقول أبوه: بسببه انهار الاقتصاد. يجيب الشاب: بفضله صار عندنا وفر من الفرص. يرد الأب: بسببه صرنا نعاني عدم الاستقرار السياسي. يقول الشاب: بفضله صرنا ننعم بالحرية. يرد الأب: تقصد الفوضى العارمة. يقول الشاب: بل الأمل. فتحسم الأم النقاش قائلة: بفضله صار لدينا أشياء مثل البيتزا هات! عندها يقوم أفراد العائلة وجميع من في المطعم موجهين تحياتهم لآخر القادة السوفييت.
إذ رغم أن غورباتشيف ارتكب أخطاء فادحة في مفاوضاته مع هلموت كول ومع جورج بوش، كما أوضحنا في سلسلة مقالات الشهر الماضي، فإن هذه الأخطاء لم تكن هي السبب الذي أدى إلى تفكك الاتحاد السوفييتي وما نجم عنه من تفرد أمريكا بالزعامة العالمية وإصرارها على توسيع الناتو شرقا، وإنما السبب هو ضعف موقع غورباتشيف التفاوضي عامي 1990 و1991. أما «سبب السبب» فهو: إفلاس الاتحاد السوفييتي. وقد حكم هذا الإفلاس الاقتصادي حكما مسبقا بالفشل النهائي على محاولات البيرسترويكا والإصلاح السياسي التي ظن غورباتشيف أنها ستكون كفيلة بإنقاذ الديناصور. لكن دوام حنين معظم الروس، وحتى بعض العرب (!)، إلى الأيام السوفييتية الخوالي لا يزال يعميهم عن الحقيقة.
وحتى لو افترضنا أن غورباتشيف، الذي كان عام 1985 قويا نشيطا، بل شابّا (مقارنة بأسلافه)، لم يصل ذات 11 مارس إلى الحكم، فإن من ردوا إلى أرذل العمر من جيل بريجنيف وأندروبوف وتشرننكو ما كانوا ليفلحوا في ما أخفق فيه، إذ ما كان إلى إنقاذ الاتحاد السوفييتي العليل من سبيل بعد أن تضافرت عليه كل عوامل الفناء. “ميشين إمبوسيبول”، كما تقول أفلام المغامرات. مهمة مستحيلة. وقد كان لسباق التسلح دور حاسم في إنهاك الاتحاد السوفييتي وإفلاسه منذ أن قرر رونالد ريغان زيادة الميزانية العسكرية الأمريكية من 178 مليار دولار عام 1980 إلى 292 مليار عام 1985. وكانت واشنطن تعرف، حتى من قبل أن يؤدي انخفاض أسعار النفط والغاز إلى إفراغ الخزينة السوفييتية، أنه لم يكن لموسكو قبل بالمنافسة في مجال «حرب النجوم» هذه. لذلك قال رئيس هيئة الأركان السوفييتي نيكولاي أوغاركوف لمراسل نيويورك تايمز: «في الجوهر، بلغت الحرب الباردة نهايتها، هذا إن لم يكن الغرب قد خرج منها منتصرا فعلا» (!). كان ذلك عام 1983. قالها بكل نزاهة وكأنه يعلم أن سقوط جدار برلين سيتكفّل، بعد ستة أعوام فقط، بإثبات صحة استنتاجه.
وقد سبق للصحافي الفرنسي رنيه دابرنات أن كتب يوم 27 أكتوبر 1965، بعد عودته من جولة في الاتحاد السوفييتي، أنه رغم شيوع نبوءة توكفيل (منذ 1835) بأن العالم سوف يسلم قياده يوما إلى أمتين عظيمتين: الأمريكية والروسية، فإن التاريخ قد أصدر حكما نافذا: ليس هناك من قوة عظمى سوى الولايات المتحدة. لماذا؟ لأن الاقتصاد السوفييتي كان من شدة الهشاشة وتعسّر الإصلاح بحيث أن روسيا خرجت من مجال القدرة على المنافسة. وقد كان هذا المعنى واضحا للنخبة الأمريكية، بدليل أن وولت روستو، مستشار الرئيس كندي، قال إبان أزمة كوبا، عام 1962، لمّا اضطر خروتشوف للتراجع في اللحظة الأخيرة لأنه لم يكن عنده من الصواريخ ما يكفي لمواجهة الصواريخ الأمريكية: «يمكن للسوفييت أن يبذلوا أقصى جهدهم لنيل ثأرهم منا بمحاولة اللحاق بنا في سباق التسلح. لكن التعب سيأخذ منهم مأخذه فتنقطع أنفاسهم. على أنهم يستطيعون أيضا محاولة إحلال السلام. أما نحن فإننا مستعدون لكلا الاحتمالين».
ويبقى، كما سنروي الأسبوع القادم، أن أوضح نبوءة مفصّلة ومعلّلة بقرب انهيار الاتحاد السوفييتي قد أتت عام 1976 في كتاب لباحث شاب لم يكن يتجاوز الخامسة والعشرين.
القدس العربي