الحزب الشيوعي الصيني ونهاية البحث عن «ولي للعهد»
منذ ظفر الشيوعيّون بالسلطان على برّ الصين وأعلنوا قيام «الجمهورية الشعبية» في الأول من أكتوبر 1949، وغريزة الاحتفاظ بالسلطة وتأبيدها في حزبهم مرتبطة عندهم بتأمين سبل الانتقال من جيل إلى آخر بينهم، ومن زعيم إلى آخر عليهم، بشكل لا يترك منفذاً لخروج الأوضاع عن السيطرة.
عنى ذلك أن تجهيز الزعيم المقبل هو من أولى مهام الزعيم الممسك بزمام الحزب الشيوعي وجيش التحرير الشعبي والدولة. هو بالتالي نظام منشغل إلى حد كبير إما بالصراع بين أقطاب الحزب على «ولاية العهد»، وإما بالتجهيز السلس والمريح لهذا الوريث، ونقل الصلاحيات له تباعاً على نحو ممنهج وحاسم.
ففي الحقبة التي هيمن عليها ماو تسي تونغ، ارتفعت أسماء وتهاوت وكلّها كانت تمنّي نفسها بولاية العهد هذه. بدءاً، ربما، من ليو تشاو تشي الذي ميّزه ماو عن البقية، قبل أن ينقلب ليو على ماو بعد تسبب الأخير بالكارثة – المجاعة، زمن «القفزة الكبرى الى الأمام» 1958-1962 للتجميع الزراعي غير المتوازن.
وبعد أن عاود ماو الهجمة المرتدة، مطيحاً بالقيادات التي تصدرت المشهد في إثر انكفائه بعد الفشل الذريع «للقفزة الكبرى»، مستدعياً جموع الشبيبة، وعملياً العسكر، ضد البيروقراطية الحزبية، من خلال «الثورة الثقافية البروليتارية العظمى» 1966-1976، عاد من جديد للعبة تفضيل أحدهم والإيحاء بأنه الوريث، ولي العهد، ثم، الانقلاب عليه، أو اللعب على التناقضات بينه وبين قادة الأجنحة المحتقنة من هذا الوريث المفترض.
هكذا كانت نكبة وزير الدفاع الماريشال لين بياو عام 1971. في إثر ذلك دارت رحى التصارع على وراثة ماو في سنيه الأخيرة، بين الخط «العملاني» المتعقل والمنادي بالتحديث، بقيادة تشو اينلاي، وبين عصابة «المجانين» الأربعة، بقيادة زوجة ماو، جيانغ كينغ، التي راحت تهدّف على الخط المتعقل، خط تشو اينلاي، من خلال حملة حملت عنوان «انتقدوا لين (بياو)! انتقدوا كونفوشيوس!». أي أنه لا يكفي انتقاد الانحراف البونابرتي للماريشال المغضوب عليه لين بياو (الذي ردّ له الجيش الصيني الاعتبار عام 2007)، بل ينبغي موازنة ذلك بانتقاد الانحراف «الكونفوشي»، الخط المحافظ، التدرجي، الرافض من الأساس لمنطق «الثورة الثقافية» الأهوج. بالتالي، ربطت عصابة الأربعة بين وجوب استئصال إرث الحكيم الصيني المولود في القرن السادس قبل الميلاد، وبين التهديف على السبعيني تشو اين لاي، بوصفه ارتداداً للتقاليد الكونفوشية في الحكم، عوض تلك الشيوعية.
استخدم ماو هذه العصابة لإضعاف تشو اينلاي، لكن الأخير رحل قبله بتسعة أشهر عام 1976. لم يعمل ماو في المقابل على تجهيز زوجته وعصابة الأربعة للوراثة، وإنما رست لعبة الأسماء عنده على من كان في الظل نسبياً حتى ذلك الوقت: هوا غيوفنغ. وهو من تولى القيادة لمرحلة وجيزة بعد وفاة ماو 1976-1978، جرى التمكن فيها من إطاحة عصابة الأربعة ومحاكمتها، هذا قبل أن يُستكمل الابتعاد عن الماوية، بالتحلق حول خط دينغ شياو بيانغ لسحب البساط من تحت هوا غيوفينغ.
سمح الابتعاد عن المرحلة الهوجاء للثورة الثقافية بمأسسة الأمور أكثر بالنسبة إلى «ولاية العهد» الشيوعية هذه. فالرجل الأقوى في النظام دينغ شياو بينغ، راعي الانفتاح الاقتصادي في الثمانينيات، ومتبني أولوية فهم الماركسية من زاوية الحث على تطوير القوى المنتجة بدلاً من فهمها من زاوية صراع الطبقات، كان يجهز الإصلاحي زاو زيانغ لهذه الوراثة، سوى أن موقف زاو الرافض لخيار القمع الدموي للشباب المتجمهر في ساحة تيان آن مين 1989، أدى لاقصائه ووضعه في الإقامة الجبرية.
شخّص النظام في زاو زيانغ خطر «غورباتشوف» آخر، يربط اللبرلة الاقتصادية بتلك السياسية، فيما يفترض أن تبقى هذه اللبرلة تحت عهدة الحزب الشيوعي، يضبطها متى شاء وكيفما شاء. في الوقت نفسه، لم يرد دينغ تسليم القيادة للي بينغ والخط المحافظ، الذي راح يربط القمع الأمني بتبطئة الاصلاحات الاقتصادية. رست بالنتيجة على من اعتبره دينغ الأكثر قدرة على مواصلة الإصلاح الاقتصادي، دون فتح المجال للإصلاح السياسي: جيانغ زيمين.
وكان دينغ شياو بينغ (ت 1997)، على الرغم من تحوله الى الشخصية القيادية الأولى في الحزب منذ نهاية السبعينيات، قد اكتفى برئاسة اللجنة العسكرية المركزية في الثمانينيات، ولم يتقلد لا منصب رئيس دولة ولا زعامة رسمية للحزب الشيوعي. في المقابل، من جهز له دينغ السبيل، أي جيانغ زيمين، سيتقلد هذه المناصب ويجمع بينها، لكنه في المقابل سيوعز عام 1998 بمنع تجديد الولايات في المناصب القيادية الى ما لا نهاية، وعلى هذا الأساس نقل الزعامة الى هو جينتاو عام 2003. بهذا المعنى، تجهيز هو جينتاو كوريث لجيانغ زيمين كان الأكثر سلاسة. في المقابل، افتقد الرجلان لأي بريق، حتى بات ينظر لتعاقبهما على الزعامة، كمجرد مرحلة انتقالية بين قائدين تاريخيين: دينغ شياو بينغ، والحالي شي جينبينغ الذي يقود الصين منذ عشرة أعوام، وقد تمكن في المؤتمر العشرين الأخير في الحزب الحاكم من أن يُخفت صوت أي اعتراض يحول دون استمراره في القيادة وفي تركز الصلاحيات بين يديه أكثر من أي اسم آخر سابق عليه في تاريخ الحزب الشيوعي الصيني.
لكن وصول شي جينبينغ الى رأس السلطة قبل عشر سنوات لم يكن انتقالاً سهلاً أو بسيطاً للمركز الأول. لم يكن تكراراً للعملية الممأسسة لخلافة هو جينتاو من بعد جيانغ زيمين (هو جينتاو هو الشخص الذي لم يصر لأحد الاطمئنان عليه بعد مشاهدة الكوكب كله لمشهد حمله على مغادرة قاعة الجلسة الختامية للمؤتمر العشرين قبل أيام). ارتبط صعود «الأمير الأحمر» شي جينبينغ بالإطاحة بأمير أحمر آخر كان ينمي حوله شعبية لافتة، وهو بو شيلاوي. في الصين، الأمراء الحمر هم أبناء القيادات الشيوعية في الحقبة التأسيسية الثورية للدولة الحالية.
بتربعه على حكم مدينة ومنطقة تشونغتشينغ، شكّل بو شيلاي في العقد الأول من هذا القرن ظاهرة كاريزمية شعبوية، استخدمت نوستالجيا «نيو ماوية» وصارت تبشّر بالنموذج المطبق في منطقتها بما يتعلق بتفكيك المافيات. لكن ظاهرة صعود نجم بو شيلاي لم يرح المؤسسة الحاكمة، وفضلت عليه من يوحي بالوقار ويختار كلماته بعناية، شي جينبينغ. كانت النتيجة أن بو شيلاي طُرِد من الحزب وحوكم بالتزامن مع سيطرة شي على المؤسسات تباعاً.
الدعاية «النيو ماوية» لبو شيلاي حملت في طياتها نوعاً من استعادة أسلوب الثورة الثقافية، من حيث التمرد على البيروقراطية الحزبية. فكان أن استنجدت هذه البيروقراطية بشي جينبينغ. لكنه لم يكرر في المقابل نموذج سابقيه جيانغ زيمين وهو جينتاو الفاقدين للكاريزما كما للتسييس والصبغ العقائدي للمواقف.
لم يكتف باللعب على وتر إحياء التقاليد الكونفوشية كما سابقيه، بل استعان بنفخ الروح القومية للأكثرية الإثنية من شعب الهان. وبالتشابك مع ذلك، راح يشدّد على مركزية دور الحزب الطليعي، سواء في الاقتصاد أو في الأمن والدفاع. بعد عقدين شهدا مزيداً من تحلل جيش التحرير الشعبي من عباءة الحزب قاد شي جينبينغ معركته الناجحة الأولى لإعادة لجم الجيش، وربطه بالحزب، إعادة تحزيبه، ومن ثم راح كزعيم أوحد للحزب والجيش معاً، يلغي ما اعتمد أيام جيانغ زيمين من وضع آجال زمنية محدودة لمن يتولى الزعامة.
في المقابل، مع شي جينبينغ، وتحديداً بعيد المؤتمر الأخير، تنمحي تماماً فكرة البحث عن ولي للعهد، التي شغلت تاريخ هذا النظام منذ نهاية الخمسينيات الى لحظة صعوده هو. وهذه مفارقة كبرى، لا سيما وأن شي ليس شاباً، بل على أبواب السبعين من العمر. الثمن المباشر لطلبه القيادة المطلقة وغير المحدودة بأجل هو اضعاف احتمالات الانتقال السلس للسلطة من بعده. تكثيف الزعامة بهذا الشكل تتم بالاستدانة من معين المستقبل. ترتبط أيضاً بأوضاع اقتصاد صيني كبير يتراجع فيه معدل النمو في مقابل تزايد المديونية وخطر إقفال الأسواق في وجهه وخطر تراجع الاستثمارات الأجنبية فيه، مع مشكلة موارد طبيعية مزمنة، سواء على صعيد الطاقة أو المعادن أو المياه.
كل هذا والصين مصرّة لوحدها على استراتيجية «الصفر كوفيد» في وقت يختار باقي الكوكب منطق التعايش مع الفيروس وترويضه. الصفر كوفيد هو النسخة الشي جينبينغية من تأبيد حال الطوارئ. الصين التي دخلت حالة الطوارئ لدواع وبائية أواخر العام 2019، قامت بتكريس هذه الحالة مؤتمرياً الآن، بما يتعدى الوباء. حالة طوارئ مستمرة، في ظل زعيم أوحد، ومن دون أي شروع في تجهيز أي وريث محتمل.
القدس العربي