عن الشبح الصيني الذي تتضح معالمه تدريجياً

تم نشره الخميس 22nd كانون الأوّل / ديسمبر 2022 12:15 صباحاً
عن الشبح الصيني الذي تتضح معالمه تدريجياً
موفق نيربية

رغم تزايد احتمال ما تسببه من أزمات خطرة، تبقى سياساً «روسيا القيصرية الجديدة» أقلّ تأثيراً بكثير مما سوف يتولّد عن تكريس دخول الصين إلى حلبة الصراع الدولي بتسارع ملموس. لقد انتهت كما يبدو تلك الاستراتيجية التي تلتمس الصمت والهدوء لتأمين أفضل الأجواء للتنمية والاستثمار وتخزين القدرات، وابتدأت منذ فترة مشاريع الإقلاع والتغيير من السكون إلى الحركة، نحو نظام دولي جديد يضع الصين في زاوية مهمة توازي فيها الولايات المتحدة، أو تتفوق عليها شيئاً فشيئاً، بعد أن تزيح روسيا عملياً من موقعها، بالتحالف معها ربّما.
يقول البنك الدولي إن الدخل القومي للصين بلغ 14.72 تريليون دولار في العام الماضي، مقابل 20.89 للولايات المتحدة، ووصل معدّل النمو السنوي إلى 8.1% مقابل 5.7% للولايات المتحدة، وأقل من ذلك بقليل للاتحاد الأوروبي… في وقت أصبح فيه النفوذ الصيني صارخاً في افريقيا وآسيا الوسطى، وما بينهما، ويتمدّد بانتظام واثق الخطى.
من جهة أخرى، تقول المراكز المختصة، إن قدرات الصين البحرية من حاملات طائرات وغواصات سوف تزداد، كما ستتزايد بشكل دراماتيكي أعداد الرؤوس النووية لديها من 290 عام 2019 إلى أكثر من ثلاثة آلاف خلال بضع سنوات لاحقة، ويمثّل هذا الرقم نصف ما تمتلكه كلّ من الولايات المتحدة أو روسيا من تلك الرؤوس. فلا يفسّر إشهار الطائرة الأمريكية الخارقة – نسبياً- (بي- 21 رايدر) في هذا الوقت كونه محاولة للجم طموحات بوتين ومغامراته وحسب، بل لعلّ الصين وبرامجها الاقتصادية والعسكرية والسياسية المقبلة مستهدفة بذلك أيضاً. يشير إلى ذلك تقارب هزّات التوتّر الخاصة ببحر الصين وتايوان، وازدياد الممانعة في مجلس الأمن.
يقوم ذلك كلّه ويتأسّس على نجاحات الصين ومعجزتها على مدى أربعة عقود، بعد أن أنهكتها سابقاً شيوعية ماوتسي تونغ، وأدخلتها ثورته الثقافية في دائرة عنف ومجاعة أودت بحياة أكثر من ثلاثين مليوناً، وهبطت ببقية الصينيين إلى دركٍ من الذلّ والاضطهاد غير مسبوق. في أعوام الكارثة تلك ذاتها: 1958-1959-1 1960، كانت البيانات الاقتصادية الصادرة عن الحزب والحكومة تبالغ في أرقامها بما يفوق أيّ توقّع، حتى ساد الصمت بعدها تحت ضغط الحقائق الفاقعة، ولم تردّ القيادة الماوية إلّا بالثورة الثقافية (1966- 1976)، التي زادت بطء الاقتصاد وكرّست سوء الأوضاع المعيشية، مع تغييب الحريات والحقوق وغلبة القمع.. حتى موت القائد «الخالد» في النهاية. وحصار «عصابة الأربعة» الأشدّ إخلاصاً لماو، وإنهائهم. حتى ذلك الوقت، كان معظم الاقتصاديين الصينيين يخضعون للحزب ويُسوّقون خطه، حتى جاءت الفرصة لزعيم مثل دينغ جياو بنغ في عام 1979 ليعلن عن سياسة جديدة، «سياسة الباب المفتوح»، التي فتحت الباب للاستثمارات الأجنبية، وابتدأت معها مشاريع المناطق الحرة والمدن الجديدة الحرة، لأول مرة منذ عهد» الكومنتانغ»، وزعيمه تشان كاي تشيك، الذي فرّ مع أنصاره والخائفين من الحكم الشيوعي في عام 1949.. إلى جزيرة تايوان!

جاء الاختبار الأصعب لمدى الانفتاح وحدوده في الحقل الاجتماعي – السياسي بعد عشر سنوات، مع حركة الاحتجاجات الطلابية العارمة التي أنزلت مليون شاب إلى ميدان تيان آنمين، وانتهت بمأساة مع هدير الدبابات التي نزلت بكلّ ثقلها لقمع الانتفاضة في بكّين وما حولها. ونتج عن تلك العملية ضحايا كثيرون ومعتقلون أكثر، ليبدأ عهد أكثر ضبطاً وحزماً في الفصل ما بين الحرية الاقتصادية المحصورة المواقع، والحرية السياسية التي تستدعيها. عبّر عن تلك السياسات القائد الشيوعي تشين يون، الذي أطلق على نظريته اسم» اقتصاد قفص العصافير». وبحسب تشين، فإن «القفص هو المخطط. وقد يكون كبيراً أو صغيراً، ولكن- في داخله وحسب – يستطيع الطائر أن يطير»… بعد تجربة تيان آنمين، سادت رؤية الحرية داخل القفص تلك.
هنالك حرية اقتصادية سمحت بوجود أكثر من ستمئة ملياردير صيني، ومدن حرة، ونمط إنتاج يفصل بصرامة بين تلك الحرية ومرآتها في المجتمع، من حرية التعبير وحقوق الإنسان. ذلك مسار يراهن ليبراليون في العالم على أنه يحمل نهايته داخله؛ وتراهن القيادة الصينية على كون الصين عالما خاصا مختلفا عن البشرية. ويميل البعض إلى أن ذلك سينتهي إلى صدام داخلي سيبحث عن حلّ سلمي أو عنيف، أو إلى صدام خارجي سيصل إلى حلّ سلمي أو عنيف بدوره.
يذكّر هذا، بطريقة يصعب تفسيرها، بالتجربة النازية والكارثة العالمية التي نجمت عنها، رغم الفوارق العديدة بين التجربتين، فرغم» حداثة» التجربة الصينية وإبداعاتها الخاصة، بل رغم حقيقة توفّر إمكانية أكبر لما يمكن أن يُطلَق عليه اسم» التعايش السلمي الجديد» كأساس للنظام الدولي المقبل. بعد جيلٍ من الازدهار القيصري في ألمانيا، انزلقت هذه إلى حرب عالمية كان لا بد من أن تخسرها. وتجلّت حماقات العصر الكولونيالي في صلح فرساي، الذي سحق الدولة المهزومة في أعمق شرايينها، (تماماً على عكس ما حدث إثر الحرب الكونية التالية، ومشروع مارشال خصوصاً، الذي يُقدّم الاقتصاد في مقابل الدمقرطة وإنهاء خطر الحرب). تدهور الاقتصاد وشروط الحياة يومها بحيث هبط سعر المارك من 8.9 مارك للدولار الواحد إلى 4.2 تريليون مارك للدولار، حتى خريف 1923. ولم تكن تلك الاتفاقية السبب وحدها في تعاسة الألمان اللاحقة، بل جاء الكساد الكبير- 1929- مباشرة بعد أن بدأت البلاد باسترداد أوّل أنفاسها، ولعب من ثم دوراً حاسماً في صعود النازية وزعيمها خلال عامين أو ثلاثة أعوام. ارتفعت نسبة البطالة في تلك الأزمة إلى أكثر من ثلاثين في المئة… فاستقبل الألمان هتلر وصلاحياته المطلقة بحفاوة إثر ذلك. في تلك التعاسة الغامرة ما يشبه – بعض الشيء – آثار الاقتصاد الماوي في الصين، والثورة الثقافية على الخصوص. لكن الشبه أكثر وضوحاً ما بين الاقتصاد الألماني في الأعوام 33- 1945، والاقتصاد الصيني بعد عام 1979 وحتى الآن. إنهما معاً يجمعان ما بين إطلاق حرية القطاع الخاص والاستثمار الخارجي، وتمسّك الدولة بمخططها العام الذي ترسمه، تحت هيمنة محكمة للحزب الشمولي الواحد، وأجهزة الحكم والسيطرة التي تراقب حدود القفص. حين تتورّم الدولة بأحمالها وطموحات نخبتها السائدة، لا بد من أن ينعكس ذلك في سياساتها الخارجية، انعكست حروباً في ألمانيا النازية تعاظمت حتى شملت العالم. في حين احتقن الاقتصاد الصيني مولّداً فروقاً اجتماعية شاسعة وظواهر خارجة عن المألوف؛ حتى احتاج إلى التوسع الهادئ في البداية على المستوى الدولي، ثمّ على شكل مشروع عملاق في مبادرة الحزام والطريق، برومانسية قد تغوي الآخرين باستعادة طريق الحرير التاريخي- الرومانسي الذي كان يربط الصين قديماً ببقية العالم.
استجاب الغرب للإغواء الصيني في عام 1979 تماماً، وأعاد إليها هونغ كونغ تحت شرط احترام حرياتها ونظامها الاقتصادي، ولكن ذلك ابتدأ يتهاوى في العقدين الأخيرين بالتدريج. وفي الأعوام الأخيرة زاد الاستفزاز العسكري لليابان والولايات المتحدة في بحر الصين، كما أصبحت السياسة الخارجية أكثر حدة في ما يخص تايوان ومطلب استعادة وحدتها مع البرّ الرئيس. ذلك ينذر باحتمالات تفرض ذاتها بقوة على الأمن الدولي، وتفرز أخطارها الكامنة العنيفة، التي تتجاوز الاقتصاد بآفاقه وحقوقه وإمكانيات التعاون السياسي – السلمي المضبوط، إلى توليد منابع توتّر خطيرة قد تصل خلال أعوام إلى مسارات خارج العقل.
وليس هنالك من حلّ يلوح في الأفق المنظور إلّا التعامل مع المشاكل على انفراد وتفكيك «صاعقها»، وإلّا الاحتكام إلى مصلحة هذا الكوكب المسكين. ولكن هذا ضعيف الآفاق من دون حلّ التناقض الداخلي في البنية الصينية. ربّما ليس على نسق سابق الخطوط تماماً، ولكن ليس من دون إصلاح سياسي، يأخذ بالاعتبار حقوق الإنسان وكونية الحرّيات الأساسية والمساءلة.. وسيادة القانون قبل أي شيء آخر. عبّر فوكوياما عن هذا بنجاح في محاضرة حذرة – حضرها ثلاثمئة شخص فقط – في بكين عام 2012 تحت عنوان» النظام السياسي الصيني والغربي في المنظور التاريخي»!

القدس العربي



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات