الربيع والبلطجة

- الربيع والبلطجة كلمتان متنافرتان, ومتناقضتان ومتضادتان, معنىّ ومضموناً وجرساً, فالربيع كلمةٌ محببة, قريبة للنفس والوجدان, تشعل الذاكرة بمشاهد الطفولة الرائعة, وعند سماعها يغرق الإنسان بشلال متناسق من المناظر المتوالية من حركات طفل يراكض الفراشات, يغرق حتى عنقه بين أسراب الورود المتفتحة الجميلة التي تداعب شلال أشعة الشمس الدافئة في غرّة نيسان على الهضاب المطلة على وادي الأردن الذي يعج بالخضرة اليانعة على جوانب قنوات الماء الصافية الرقراقة, المصحوبة بأغاريد القبّرات التي تحاول إسماع البشر أعذب الألحان وأسماها.
أمّا البلطجة فهي مشتقة من كلمة "بلطة", وهي تلك الأداة الثقيلة الحادة, ذات الحافة المصقولة, يحملها رجل ممتلئ مفتول العضلات, ملابسه ملطخة بالدم, وتفوح من جوانبه رائحة اللحم النيء, والشحم الذي تراكم عليه الذباب, وإذا ما ارتفعت البلطة بيد الجزار ثمّ هوت على كتف الخروف الضحية جعلته قسمين متباعدين لحماً وعظماً, بل هي كفيلة بتقطيع ثور كبير مرعب, إلى مجموعة قطع متناثرة تصلح أن تتشابك عبر (سيخ اللحمة) المعد للشواء.
الغريب في الأمر اجتماع هاتين المفردتين في ثورة العرب الحديثة على أنظمة الفساد والاستبداد, فهناك من يحاول أن يرسم تلك الصورة الوردية لانتفاضة الشباب والأجيال في الميادين والشوارع والأزقّة من أجل التخلص من ركام الغبار المتلبد عبر نصف قرن من الزمان وزيادة, على الذاكرة الحرّة ومفاصل الإرادة الجمعية, المركونة تحت وطأة الظلم والعسف والإهانة والاستغفال; من أجل إشعال الحماسة في الوجدان المرتعب, وإدخال التشوه على العاطفة الوطنية الباردة التي أصابها العطب, ومن أجل إفساح الفرصة لاستنبات ورود الحرية على الرماد المتراكم الجثث المتفحمة التي قضت في سجون الطغاة وزنازين الاستبداد.
وأمام هذه المحاولات محاولاتٌ أخرى لتشويه الربيع العربي وتبديد صورته, ومحاولة التغطية على كل محاولات الجمال, فبعضهم يحاول رش الرذاذ السام على أعين الجماهير من العامّة والأطفال والبسطاء ليحجب لون الخضرة اليانعة ويستبدلها بلون الدمّ القاني البرتقالي.
وهناك من يحمل "البلطة" يلوّح بها يميناً وشمالاً, يريد أن يمنع الناس من مجرد النظر إلى الربيع المتدفق خضرةً وجمالاً, ويريد أن يمنعهم من سماع صوت خرير الماء المتدفق عبر الجداول والقنوات التي تمد الربيع بالحياة, ومقاومة الغبار الجاف القادم من النفوس القاحلة.
"البلطجة" ممارسة من كلّ الذين لا يؤمنون بالرأي والفكر والبلطة عدوّ للحرية, والبلطجة نقيض السلوك المتحضر, ونقيض السلوك الإنساني المثقف, ونقيض الحوار العقلاني الهادئ, بل هي نقيض الحياة الطبيعية العادية; لأنّ الحياة صدى للفكر وترجمة للرأي الحرّ, فكل ما نشاهده ونستعمله من أدوات لسير الحياة, كل ذلك ترجمة للفكر والإبداع; السيّارات, الطائرات, القطارات, السفن, الكهرباء, الزراعة, الصناعة, نسج الملابس, الحصول على الدفء, غزو الفضاء, بناء البيوت, تنسيق الحدائق, عمل الطرق وبناء الجسور, اختراع النواعير, بناء السدود...
كل هذا وغيره من ولادة الفكر, وتلاقح الآراء والحوارات الدائرة منذ ولادة آدم وتتابع ذريته عبر المكان والزمان.
ونحن الآن أمام أي فكرة وأمام أي رأي مطروح, إمّا أن نسمع ونحاور ونرد ونحاجج, ونأخذ ونرد ونطوّر, ونستدرك ونحذف ونعدّل, وإمّا أن نستخدم "البلطة", بمعنى لا سماع ولا حوار ولا مهادنة ولا سماح بالوجود أو الحياة.
إمّا أن نستظل بدولة القانون والمؤسسات, أو بدولة البلطات, وإمّا أن نحتكم إلى القضاء عند الاختلاف, أو نحتكم للزعران واللصوص, ليس هناك خيارٌ آخر.
فالبلطة إذا ضد الحوار, والبلطة ضد العقل, والبلطجي ضد القانون, والبلطة ضد القضاء, والبلطة ضد العقل, والبلطجي هو الذي يرفض الحوار ويرفض الدستور ويرفض القانون ويرفض القضاء, ويرفض الدليل ويرفض مجرد السماع.
وكما جاء في سورة (يس) حول أصحاب القرية التي بعث الله إليها الرسل, فعندما قالوا: {وما علينا إلاّ البلاغ المبين}, قالوا لهم: {إنّا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم, وليمسنّكم منا عذابٌ أليم}.(العرب اليوم )