لقاءات عمان .. و«رزنامة» المصالحة

- في الجدل الفلسطيني الدائر حول “لقاءات عمان”، تطفو على السطح مخاوف أطراف عديدة، من مغبة الانعكاس السلبي لهذه اللقاءات على مسار المصالحة الفلسطينية الذي انطلق بقوة في الأسابيع القليلة الفائتة...فلسطينيون من شتى المشارب والفصائل أعربوا عن الأمل بألا تتأثر “رزنامة” المصالحة واستحقاقاتها بمشاركة وفد فلسطيني إلى جانب وفد إسرائيلي في اجتماعات عمان التي دعت إليها الخارجية الأردنية، وشارك فيها ممثلون عن الرباعية الدولية.
السلطة الفلسطينية ما فتئت تبعث رسالة الاطمئنان تلو الأخرى، تقول إنها لم تتراجع عن شروطها أو مطالبها لاستئناف المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي، وهي ترفض أن تصف لقاءات عمان بـ”المفاوضات”...البعض قال مازحاً إنها “مفاوضات لاستطلاع فرص استئناف المفاوضات”...أياً تكن التسمية، فإن ما ينبغي الإشارة إليه، والتحذير منه، هو الوقوع في واحد من “فخين”:
الفخ الأول، أن تذهب السلطة إلى المفاوضات من دون الأخذ بشرطيها الرئيسين، وقف الاستيطان والتزام مرجعية خط الرابع من حزيران أساساً لترسيم حدود “الدولتين”....والفخ الثاني، أن تنقاد إلى ما يمكن تسميته سياسة “المُهل المفتوحة”، فلا يصبح للسادس والعشرين من يناير/ كانون الثاني الجاري، أية قيمة أو معنى، بوصفه محطة فاصلة بين مرحلتين، كما سبق للرئيس عباس، ومعه معظم إن لم نقل جميع القيادات الفلسطينية أن أشارت.
فالوقوع في أحد “الفخين” أو كلاهما، يُعدُّ بمثابة “انتحار سياسي” للسلطة بعامة، والرئاسة بشكل خاص...فالرئيس عباس تحمّل ضغوطاً تنوء بها الجبال لثنيه عن الذهاب إلى نيويورك، أو دفعه للتخلي عن شروط استئناف المفاوضات، والسلطة رزحت تحت وابل من الضغوط الأمنية والاقتصادية، والرئيس شخصياً يتعرض لحملة تشويه تسعى لتصويره كعقبة في وجه السلام، أو كـ”رجل ليس ذي صلة”، وبصورة تذكّر بما تعرّض له الراحل ياسر عرفات في سنوات “السور الواقي”، تشارك فيها الأطراف ذاته، وبتواطؤ من رموز فلسطينية، لعبت أدواراً مشابهة في السابق...وأن حصل “المحظور” فإن مكانة الرئيس ورصيده ومصداقيته ستصبح عرضة للتآكل والتبديد.
ندرك أن السلطة لم تتخل يوماً عن “خيارها التفاوضي”، ونعلم أن الرئيس عباس صارح خالد مشعل، بأنه لن يتردد بخوض غمار المفاوضات إن توافرت شروطها، ونعلم أيضاً أن خالد مشعل، أبلغه استعداد حماس لمنحه فرص اختبار خياراته واستنفادها، على قاعدة الثقة المتوّلدة بين الرجلين...ونريد أن نصدق أن المشاركة في اجتماعات عمّان لن ترتب تراجعاً عن “شروط استئناف المفاوضات”...لكن الأهم من كل هذا وذاك وتلك، أننا لا نريد لاجتماعات عمان، أن تكون سبباً بتعطيل مسار المصالحة وضرب استحقاقاتها والإخلال بـ”رزنامتها”.
لا نريد للجان المصالحة والحريات وتفعيل منظمة التحرير وإعادة هيكلتها، أن توقف عملها، أو أن تتباطأ بأداء المطلوب منها...لا نريد لاستحقاق تشكيل حكومة الوحدة أن يتأخر عن شهر شباط/ فبراير القادم، ولا للانتخابات العامة، من رئاسية وتشريعية ومجلس وطني، أن تتعطل بفعل الانقسام الفلسطيني.
والأهم من كل هذا وذاك، أن الوقت قد حان، لنقل “المقاومة الشعبية السلمية” من فضاء الشعارات العامة، إلى حيّز التطبيق الميداني والعملي...نريد استراتيجيات فعّالة في هذا السياق...فحتى خيار التفاوض بحاجة إلى قوة ضغط تسنده، ولقد توافق الفلسطينيون على اعتبار المقاومة الشعبية، قوة الضغط الحقيقية التي من شأنها رفع كلفة الاحتلال وإجباره على الجلاء عن الأراضي الفلسطينية المحتلة والمحاصرة.
ونريد للقيادة الفلسطينية، أن تمضي قدما في “مطاردة إسرائيل” في كل المنابر والمحافل الدولية، من جنيف إلى نيويورك إلى لاهاي....يجب ان تشعر إسرائيل بأنها هي المحاصر بجرائمها وبـ”لا شرعية” احتلالها واستيطانها للأرض الفلسطينية...هذا خيار ثابت وطريق مستقل، سواء أكانت هناك مفاوضات أو لم تكن....هذا وحده الطريق الكفيل بإرغام إسرائيل على الإذعان...أما تسليم كل الأوراق، والركون إلى ما يمكن لمائدة مفاوضات عبثية أن تأتي به، فهذا طريق جربناه مراراً وتكراراً، ولم نحصد جرّاءه سوى الفشل الذريع.
قد يفهم المرء “الاعتبارات الأردنية” الكامنة في خلفية قرار السلطة المشاركة في اجتماعات عمان، مع أن كثيرين على الساحة الفلسطينية، ومن داخل فتح، لم يتفهّوا الأمر على هذا النحو...لكن هذه “الاعتبارات” ستتعدى حدود “المجاملة المقبولة” إن هي مسّت بأولويات الأجندة الوطنية الفلسطينية في هذه المرحلة، وهي بالأساس، إنجاز المصالحة وتفعيل المنظمة وإطلاق المقاومة الشعبية...وكل ذلك على أرضية نبذ الأوهام حول عملية السلام العقيمة وخيار التفاوض العبثي السقيم.
لقد أنعشت لقاءات عمّان قوى مناهضة للمصالحة واسترداد الوحدة، في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة على حد سواء...فالحذر الحذر من تمكين هؤلاء من فرض أجندتهم على الشعب الفلسطيني...حذار حذار من السماح لهؤلاء الذين نعرف جيداً مواقفهم التقسيمية والتفتيتية، قبل لقاءات عمان وبعدها، بل وقبل لقاءات المصالحة في القاهرة وبعدها، من فرض أولوياتهم على الشعب الفلسطيني...فالمطلوب اليوم، أكثر من أي وقت مضى، قطع الطريق على هذه الأصوات، ومنعها من تعكير مناخات التفاؤل التي أعقبت لقاءات القاهرة الأخيرة...وهذه مسؤولية جميع الأطراف، وبالذات قيادتي فتح وحماس، وبخاصة عباس ومشعل.(الدستور )