مجنون أم زاهد أم حكيم ؟!

- عندما قرأنا عن ديوجين الذي كان يحمل شمعة في عز الظهيرة ليبحث عن الحقيقة، والذي جاء الاسكندر اليه ليسأله عما يريد فأجابه انه يريد منه ان يغرب عن وجهه كي لا يحجب عنه الشمس ظننا بأن الحكاية من ابتكار المؤرخين.
وحين قرأنا عن الروائي الروسي تولستوي صاحب الحرب والسلام انه كان من اسرة اقطاعية ورث عنها مساحات هائلة من الارض اضافة الى الاتنان، ثم زهد بكل شيء وذهب الى اكواخ الفلاحين ليعيش معهم ويقاسمهم الرغيف الناشف، قلنا ان الرجل أصيب بالجنون.
ولولا ان بيل غيتس ما يزال حيا لكررنا العبارة ذاتها عندما تبرع بأكثر من اربعين مليار دولار واكتفى بالقليل..
والعالم المجنون اللاهث وراء المزيد من التملك والذي وصفه عالم النفس اريك فروم بأنه استبدل الكينونة بالملكية، وبلغ أقصى الانانية العمياء، به من المفاجآت ما هو أقرب الى الجمل المعترضة في كتاب رتيب.
في أيامنا هذه التي نسمع فيها ان هناك من قتل أخاه أو أمه أو أباه من اجل حفنة دولارات، وهناك من تنازل عن كرامته وشرفه كي يغمس رغيفه في ماء وجهه أو دم أبنائه.. يحدث ما هو أقرب الى الجنون بمقياس هؤلاء.. لكنه قد يكون أقرب الى صفاء الزنبقة البيضاء أو ندف الثلج قبل ان يتلوث على الارض بمقياس آخر.
الايطالي "جيوفاني" الذي عاش حتى العقد السادس من عمره متشرداً كالقطط، يتنقل بين الحاويات والارصفة، رفض ميراثاً بالملايين عن أمه وميراثاً آخر عن عائلته، وهذه الملايين ليست بالليرة التركية أو الدينار العراقي انها باليورو..
وحين استدعته أمه وهي تحتضر كي تقول له بأن ما سوف يرثه عنها هو عقارات وأموال وممتلكات لا حصر لها، رفض القبول بهذا العرض ولم يتصرف معه كما لو انه بشارة حتى لو اقترنت بموت أقرب الناس اليه..
هذا الرجل يعيش معنا في عالم تراجعت فيه كل الكوابح الاخلاقية، وتقطعت كل الاواصر باستثناء آصرة واحدة مع المال، لكنه كما قال فضل الحرية حتى لو انتهت الى التشرد على هذا الميراث، وهو قد يعرف بأن هناك من كانوا سيقتلون أمهاتهم أو آبائهم من أجل تعجل الميراث.. وقد لا يعرف ان هناك شرائع تحرم الوريث اذا قتل أباه أو تعجل موت من سيورثه.
والسماء التي قررت هذا العقاب كانت على ما يبدو أدرى منا جميعاً بما يمكن ان ينحرف اليه الشر، بحيث لا يتردد بعضهم عن أكل لحم أخيه أو حتى ابنه حيّاً وميتاً بالشهية الحيوانية ذاتها. رغم ان الحيوان يعفّ عن ذلك.
لكن هذا الرجل الغريب لم يرفض الميراث فقط، بل أوصى به للفقراء والمشردين بعد ان شاهدهم عن كثب وقاسمهم العراء والارصفة والصقيع.
اما المفاجأة فهي العثور عليه ميتاً في الشارع وليس معه شيء الا حريته التي انتحر بها. ومن قرأوا هذا النبأ من اهل مدينته وغيرها ايضا لا بد انهم سخروا وهزوا أكتافهم عجباً، لأن المال بالنسبة اليهم أعز من الاهل والابناء والاوطان رغم انهم لا يأخذون منه شيئا الى الديدان التي تنتظرهم في القبور، وكم كان حكيماً ذلك الثري الذي أوصى ابناءه ان يخرجوا يده من الكفن كي يرى من يشيعه الى القبر انه عاد كما ولد، وثمة مثل شعبي لا بد ان الناس تناسوه هو: "الكفن لا جيوب له"..
هل كان الرجل مجنوناً أم حكيماً أم غريباً؟؟(الدستور )