ملف طاقية الإخفاء

- رغم غياب البعد الثالث عن ثقافة تأسست على الثنائيات، حيث ما من رمادي بين الاسود والابيض، وما من صاحب بين الصديق والعدو، الا ان هذا البُعد المسمى في الأزمات الراهنة الطرف الثالث يحضر من خلال غيابه ويحمل عدة اسماء منها المندس والطارىء ولص الظلام.
وهناك فيلم عربي قديم بالأبيض والاسود عمره اكثر من نصف قرن بعنوان "طاقية الإخفاء" خلاصته ان رجلا ضعيفا وعاجزا عن المواجهة يحصل على هذه الطاقية السحرية، فيفعل كل ما يشاء وينتقم ممن كانوا الاقوى بواسطة هذا السلاح العجيب، لكنه ما ان يفقد الطاقية ويحصل عليها خصمه حتى تتبدل المسألة كلها.
واستطاع من ظَفِر بهذا السلاح ان يسرق محلات المجوهرات ويدخل الى كل البيوت دون ان يراه أو يحس به أحد..
وما يقال الآن عن الطرف الثالث في الحراك العربي في اكثر من عاصمة عربية يذكرنا بذلك الفيلم الكوميدي، فمن هو هذا الطرف؟ ومن أين حصل على طاقية الاخفاء بحيث يقتل ويستبيح ويقترف الجرائم كلها وسط الناس دون ان يراه أحد..؟
وحكاية هذا الطرف الشبح ليست جديدة، فقد سبق ان أصيب الناس بالذعر بسبب جرائم تنسب الى اسماء حركية، ومنها حكاية "ابوطَبَر" في بغداد السبعينات الذي كان يقتحم البيوت ويقتل ويسرق ويختطف، ومنها الحكاية الشهيرة عن سعيد مهران التي حولها نجيب محفوظ الى رواية بعنوان اللص والكلاب. لكن الجديد في طاقية الاخفاء هو انها لم تُسرق بعد، ولم يفقدها من تسلح بها بحيث بدت اقوى من جيوش واجهزة أمن وكاميرات!
ان مفهوم الطرف الثالث هو من اختراع الطرفين الاول والثاني، بحيث يصبح الوعاء الذي تُلقى فيه المواقف والافعال غير المرغوب فيها، وبالتالي يكون الطريق او الاسلوب الامثل لتبرئة الطرفين المتنازعين.
والثقافة الثنائية التي غاب عنها الجدل والتفاعل والظلال تكتفي الآن بطاقية الاخفاء التي يرتديها الطرف الثالث كبديل عن الجدلية والتعامل المنطقي مع الاحداث والمفاهيم باعتبارها ذات بعد ثالث أساساً.
واذا عُمِمّت حكاية الطرف الثالث فقد يدمر العالم العربي كله بأفعال منسوبة الى هذا المجهول، وتطوى الملفات بعد تبرئة الطرفين المشتبكين في الساحات والشوارع.
والسؤال المبرر الذي يُطرح الآن بقوة في الشارع العربي، هو كيف يعجز من يسمعون دبيب النملة كما يقال ومن يترجمون النوايا والصمت ويستنطقون الجدران عن كشف من يستخدمون طاقية الاخفاء لخلط الحابل بالنابل؟
قد يكون الطرف الثالث ذريعة سياسية أو مشجباً يعلق عليه كل ما يتبرأ منه الطرفان الاول والثاني..
انه فيلم جديد بالعنوان ذاته، لكنه بالالوان وطواقي الاخفاء فيه سلاح نووي لا يقاوم، لأن الفاعل لا يُرى، وبامكانه ان يدخل حتى من ثقب الباب ويحرق ويسلب ما يشاء.
هذا المزج البائس بين تراجيديا الدم وكوميديا الطاقية قد يعطب البوصلات كلها!!(الدستور)