عن الانقسام المذهبي والمقاومة و«ربيع العرب»

- خلال السنوات الخمس الفائتة، شهدت المنطقة العربية اثنين من أهم الأحداث والتطورات في تاريخها المعاصر....الأول صمود المقاومة والشعب اللبنانيين الباسل في حرب تموز المجيدة، والثاني، اندلاع ثورة الحرية والكرامة والديمقراطية في معظم أرجاء الوطن العربي الكبير....كلا الحدثين لم يكونا منبتيّ الجذور، فقد سبقتهما إرهاصات كبيرة مهدت لهما، المقاومة اللبنانية بنت على تجربة نظيرتها الفلسطينية، وأسست لتجربة الصمود في قطاع غزة لاحقاً، وثورة “الربيع العربي” استكملت مئات وألوف المواجهات في مختلف ساحات الحرية والكرامة في عدد وافر من الدول والمجتمعات العربية.
بيد أن لكلا الحدثين، ميزة خاصة به، الأول، أنه رفع الصمود إلى ضفاف الانتصار على “الجيش الذي لا يقهر”، وانتقل بالمقاومة من وظيفتها الأولى: “المشاغلة” إلى مشارف “توزان الردع المتبادل”، وبرهن بالقطع، إن الإرادة السياسية هي ما ينقص أمتنا للانتصار على عدوها القومي...أما الحدث الثاني، فقد برهن بالملوس كذلك، على نظرية الرئيس التشيكي الراحل فاتسلاف هافل عن “قوة الضعفاء” أو كما قيلت بالإنجليزية: “The Power of the Powerless”، فالملايين التي خرجت بصدورها العارية إلى الشوارع والميادين في مئات المدن والقرى والبلدات العربية، تكشفت عن طاقة هائلة، لم تصمد في وجهها أعتى نظم الفساد والاستبداد.
كلا الحدثين اللذين لم يستنفذا أهدافهما بعد، برهنا بما لا يدع مجالاً للشك، بإن الإرادة الشعبية عندما تتحرر من قيود الخوف والرعب والفساد والاستبداد، كفيلة بصنع المعجزات...فإذا كانت “حرب تموز” قد أجبرت إسرائيل على إعادة تعريف نظريتها الأمنية/الاستراتيجية، بما في ذلك إعادة ترتيب التهديدات والأولويات، فإن “ربيع العرب” نجح في إجبار إسرائيل على فعل ذلك ثانية، وفي غضون أقل من خمس سنوات فقط، بعد أن كنس عن مسرح السياسة العربية، نظماً خانعة، استمرأت التواطئ والصمت والانكفاء والعجز.
ولأنهما احتملا وحُمِّلا هذا القدر من المعاني والدلالات الاستراتيجية في مضمونها، فقد كانا سبباً كافياً لـقرع أجراس الإنذار والخطر في عديد من العواصم المنطقة والإقليم والعالم....حزب الله واجه ما واجه من عمليات “الشيطنة” و”المذهبة” و”الحصار” و”التشكيك”، وثورات العرب اليوم، تواجه ما تواجه من مؤامرات الإحتواء و”الإنحراف بها عن مسارها” وتصويرها كخطر وتهديد ماثلين، بدل التعامل معها كفرصة للإصلاح والتغيير والنهوض، ومصدر قوة للأمة لا يقدر أبدا.
أخطر الأوراق التي استخدمت في مواجهة هذين “المكتسبين الكبيرين”، تمثلت في إذكاء الانقسام المذهبي والوصول به إلى حد الاحتراب والاقتتال....فتطويق “حزب الله” كان يتطلب التركيز على “شيعيته”...ومحاصرة “الربيع العربي”، تقتضى هي الأخرى، تصويره كـ”سدّ سُني” في مواجهة “هلال شيعي”، وفي كلتا الحالتين، تورطت القوى ذاتها في هذا إطلاق هذا “الهجوم المضاد” وملاحقة فصوله وتداعياته...في كلتا الحالتين استخدمت الأدوات ذاتها تقريبا: البترودولار، التيارات السنية الأكثر تشدداً (بعض مدارس السلفية تحديداً)، ومحاولة وضع إيران في مكانة متقدمة على إسرائيل في خانة الأعداء القوميين للأمة، وأحياناً سحب إسرائيل من هذا القائمة وإعادة تقديمها كـ”حليف محتمل” في المنازلة الكبرى مع إيران وحلفائها وعملائها كما يقول خطاب “الهجوم المضاد”.
على الضفة الأخرى، لم تكن أطراف ما كان يعرف بـ”محور المقاومة والممانعة” براء من المسؤولية فيما آلت إليه المنطقة...إيران نظرت لانتصار المقاومة اللبنانية، وصعود حركة حماس، وأزمة المشروع في العراق، و”يقظة الشيعة العرب” في الخليج، بوصفها إمارات على صعودها كقوة إقليمية عظمى مهيمنة، بل وهي نظرت إلى الثورات العربية بوصفها “رجع صدى” لثورة الإمام الخميني الإسلامية قبل ثلاثة عقود...”حزب الله” قارف من الأخطاء الاستراتيجية ما ساعد على تبديد صورته ومكانته، بدءاً من “تورطه” في “زواريب” السياسة المحلية اللبنانية من جهة، وانتهاء بموقف غير المتوازن من ثورات العرب المجيدة من جهة ثانية، حيث كان صوتاً جرئياً جداً في دعم انتفاضة شعب البحرين، وجزءاً لا يتجزأ من خطاب الثورة المضادة في سوريا، سياسياً وإعلامياً وإيديولوجياً (ويقال أمنياً كذلك)، وفي كلتا الحالتين، لم يبرأ الحزب من “لوثة المذهبية”، وهذا ساعد كثيراً في تضخيم وتكرّيس صورته المذهبية، وأضعف البعد الوطني والقومي لمقاومته الشجاعة والفاعلة ضد الاحتلال الإسرائيلي.
لقد انتهينا إلى “مقاومة مكشوفة الظهر”، تكاد تنكمش على المساحة الضيقة لـ”المذهب” وامتدادته في المنطقة العربية والإقليم ... وإلى “ربيع عربي” يواجه خطر “اليباس” و”اليباب” جراء اصطراعات المذاهب وصعود الخطاب الديني / المذهبي، في تعبير فجٍّ عن نجاح دول معادية للمقاومة والديمقراطية والحرية في شق “طرق التفافية” حول مقاومة لبنان وفلسطين وثورات مصر وليبيا وتونس، والحبل على الجرار كما يقال.
في ظروف أخرى، غير ظروف الانقسام المذهبي العميق، أو “الفالق الزلزالي” الذي يضرب المنطقة بطولها وعرضها وفقا لتعبير الرئيس الأسد، كان يمكن لتجربة حرب تموز أن تكون منعطفاً حاسماً في تاريخ المنطقة، وبالأخص تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي...وكان يمكن لـ”ربيع العرب”، أن يوفر العون والإسناد والغطاء والتغطية للمقاومة في مختلف ساحاتها، وليس في جنوب لبنان وبقاعه وضاحيته الجنوبية فحسب، وأن يرفدها بملايين النشطاء والمقاومين من أبناء هذه المنطقة التوّاقين للحرية والانعتاق، والمؤمنين بإن إسرائيل لا تضمر لهم، على امتداد وطنهم الكبير، سوى “الشرور” و”التخلف” و”الانقسام” و”الفرقة”....لكننا للأسف نحصد اليوم الثمار المرة لأخطر لعبة تفتيتية لجأت إليها نظم التخلف والفساد والاستبداد في عالمنا العربي، وسنظل من أسفٍ أيضاً، ندفع الأثمان الباهظة للعبث الطويل بنسيج مجتمعاتنا وإخفاقاتنا في بناء دولة المواطنة، المدنية والديمقراطية سواء بسواء.(الدستور )