كفى تواطؤاً !!

- لكي لا نتبادل الحك كما تفعل الفئران في صفقة مقايضة ونصفق لأخطاء بعضنا البعض، ويكون القرد في عين أمه غزالاً، ولكي لا نكون الطيور التي صدقت بأن التمساح تحالف معها بحيث تُنظف أسنانه وهي لا تملك أية ضمانة ضد تثاؤبه أو إطباق الفكين.
علينا أن نعترف أولاً بأن غياب النقد الذاتي طالما كان سبباً جذرياً في انهيار امبراطوريات، وحين تناقشت ذات يوم مع صديق فرنسي في أحد مقاهي باريس حول الفارق الحضاري بين اوروبا وامريكا، قال لي ان اوروبا هي اثينا اليونانية بفلاسفتها وريادتها المنطقية وما انجزته من خبرات استمرت خمسة وعشرين قرناً بدءاً من مجلس الاليغورا حتى قنوات الريّ مروراً بأرسطو..
وحين أراد ان يبرهن على صدقية رأيه حول غياب النقد الذاتي عن الولايات المتحدة اخذني الى شوارع ضيقة بالقرب من سان جرمان، وقال لي ان أزمة السير في هذه الشوارع كانت قبل قرنين أشد مما هي عليه الآن رغم ان الوسيلة الوحيدة للمواصلات البرية كانت العربات التي تجرها الخيول، وحين استغربت ما قال اضاف موضحاً ان سبب تلك الأزمات كان عدم اكتشاف "الريفيرس" أو قدرة العربات على ان تعود الى الخلف، فهي مضطرة لان تستدير، لهذا فما يسمى الريفيرس في السيارات هو وسيلة الايضاح المادية للنقد الذاتي او مراجعة الاخطاء.
ونحن العرب من اكثر شعوب الارض شغفاً في مديح أنفسنا وضيقاً بكل ما يخالف رغائبنا، انعكس هذا على ساسة وجنرالات أعدموا وشنقوا وشردوا من لم يردد كالببغاء صدى أصواتهم، مثلما تجلى في الثقافة حيث شهدت المحاكم في العديد من العواصم قضايا من طراز فريد، فهناك من الكتاب والشعراء من اشتكوا رسمياً الى المحاكم بسبب مقالات نقدية لأعمالهم، رغم انها لم تكن تسيىء الى أشخاصهم على الاطلاق، بل تكتشف عيوباً وهنّات في نصوصهم.
حتى من يكتبون المذكرات سواء كانوا ساسة أو شخصيات عامة أو ادباء، فهم ولدوا بالغين ومحصنين ضد الاخطاء وأقرب ما يكونون الى الملائكة، فأخفوا شياطينهم واخطاءهم حتى البريء منها فأصبح كل ما كتبوه باستثناءات قليلة تكرس القاعدة منزوع الدسم ومستأصلة منه شجاعة الاعتراف، وحين جازف كتاب مثل محمد شكري المغربي وسهيل ادريس اللبناني بكتابة مذكرات صريحة عوقبوا وصودرت كتبهم وقاطعهم ذووهم.
لماذا لا نعترف بأننا منذ نهضة القرن التاسع التي قادها الكواكبي صاحب طبائع الاستبداد وكوكبة من الرواد بأننا بأيدينا نرمي الحجارة على عناقيد اشجارنا، وبالرغم من كثرة المشاجب التي نخترعها كي نعلق عليها خوذ الأعداء الذين تآمروا ضدنا إلا أن ما فعلناه بأنفسنا كان أضعاف ما فعله غزاتُنا بنا. هذا اذا لم نقل بأننا في مرات عديدة نادينا على هؤلاء الغزاة بأعلى صوتنا وأحياناً توسلنا اليهم كي يعودوا بعد نصف قرن من استقلالات مشكوك فيها.
ان كل منظومة القيم وحتى الاساطير التي نتغنى بها قلبت رأساًً على عقب، فالفروسية هي الآن ذرائعية وبرغماتية بلا كوابح واكاديمية الفهلوة وما يتفرع عنها من انتهازية وتقبيل أفواه الكلاب وتحمل لعابها أصبحت أهم من أعتى القلاع الجامعية، لأن لها فِقْهاً لا يتيسّر الا لمن كان ضليعاً في التخفي واستبدال الاقنعة والتحول الى حرباء بشرية تلبس لكل تربة سياسية جلدها ولونها.
ولو عاد الطائي حياً لبكى على لجام حصانه وسرجه اضافة الى بكائه على الحصان، اما اسطورة ميداس الذي كان يلامس التراب أو الرمل فيحوله الى ذهب، فقد قُلبت ايضا رأساً على عقب، لأن ميداس العربي الجديد لامس الذهب فحوله الى رمل وبفضل عبقرية سفاهته حول فائض الثروة سواء في المال أو الموقع أو الديمغرافيا الى فائض فقر ومديونيات.
ونحن لا نطمح الى نقد ذاتي يجعلنا نقول للأعور أنت أعور، فاضعف الايمان ألا نتغزل بعينه العوراء وأضعف أضعف الايمان ألا نُسّمي الخائن بطلاً!!
(الدستور)