موقف مشرف

- لا يمكن وصف تصريحات د. أحمد هليل، قاضي القضاة (للزميلة "الدستور" أمس)، إلاّ أنّها موقف أخلاقي مشرّف ومحترم، يمثّل استثناءً على التصريحات الخجولة التي نسمعها من المسؤولين والسياسيين لدينا إزاء الجرائم الهمجية التي يرتكبها النظام السوري بحق المدنيين العزل.
لتصريحات هليل وقع آخر وطابع مختلف؛ فهو رأس مؤسسة القضاء الشرعي في الأردن، وأحد أبرز قادة المؤسسة الدينية الرسمية، وهذا الموقف يردّ الاعتبار لهذه المؤسسة ويمنحها مصداقية واحتراماً لدى الشارع الأردني والعربي عموماً، بخاصة أنّ هليل تجاوز في تصريحاته الموقف السياسي الرسمي وتقدّم عليه خطوات واسعة.
الدكتور هليل وصف ما يحدث في سورية بأنّه "جرائم حرب ضد شعب أعزل لا يملك حولاً ولا قوة أمام فاشية حاقدة طاغية، وزمرة ظالمة باغية". وهو توصيف منصف لما نشهده هذه الأيام تحديداً من تماد في الإجرام وسفك الدماء وتعذيب الأبرياء، وقصف يومي على حمص وإدلب، وجرحى يموتون أمام أهليهم لنقص الدواء، وحصار ظالم يشمل الماء والكهرباء والخبز؛ هي حرب تجويع وقتل بطيء ترقى إلى أسوأ أصناف الجرائم ضد الإنسانية والأخلاق.
اللغة الصارمة التي استخدمها قاضي القضاة هي فقط الكفيلة بالتعبير الإنساني عما يحدث هناك؛ إذ لا قيمة اليوم لأحاديث نخبنا السياسية الخجولة عن مصالحنا مع النظام السوري، فما قيمة هذه المصالح ومشروعيتها إن كانت على جثث أطفال درعا وحمص وإدلب وآلاف الشهداء وآلاف المعذّبين في معتقلات هذا النظام الدموي؟!
نحن لا نتحدث عن منصب سياسي، ولا يمثّل الحكومة الأردنية ومواقفنا الرسمية، لكنه أكثر بلاغة وتعبيراً، فهو يمثّل الجانب الرمزي والديني والمعنوي، ويقترب بالمؤسسة الدينية الرسمية من روح الشارع وضميره ومشاعره تجاه ما يحدث في سورية.
لم يتحدث قاضي القضاة عن الثورة، ولا عن التدخل الأجنبي، ولا عن المواقف السياسية المتقلبة، فهي موضوعات خلافية، بل حدّد تعريف موقفه تجاه الجرائم المرتكبة بحق المدنيين والأبرياء، وهي قضية لا يجوز أن تكون موضوعاً للنقاش والسجال، ولا تحتمل الاختلاف وتعدد وجهات النظر، إذ تقع في صلب قيم الإنسانية وحقوق الإنسان.
ثمة جانب مشرق آخر في تصريحات هليل، يرتبط بحضور المؤسسة الدينية الرسمية ومكانتها السياسية والرمزية، إذ نأمل أن يكون ذلك مقدّمة لمواقف مماثلة تحذو فيها هذه المؤسسة نحو الاستقلالية والريادة وملء الفراغ الحاصل، لتكتسب مصداقية شعبية ومجتمعية، فما أحوجنا إلى قيادات معتدلة في هذا المجال الحيوي، ترفع من شأن أهل الفقه والعلم والفكر، وتمنح كلمتهم وقعاً خاصّاً ومختلفاً، وتسد الباب أمام القيادات والشخصيات المتطرفة والمأزومة.
الأزهر اليوم ليس كالأمس، فهو مؤسسة تحظى باحترام الجميع، وتقوم بدور معتدل ومتوازن في المشهد السياسي نحو جمع الكلمة، وفي الفكر الإسلامي نحو تطوير الخطاب الإسلامي. وقد خطا شيخ الأزهر المستنير التقدّمي أحمد الطيب خطوات واسعة بعد الثورة نحو استعادة هيبة هذه المؤسسة وقيمتها وحضورها، سواء بوثيقة الأزهر لمستقبل مصر، أو بفتاواه تجاه الفكر الإسلامي ودوره في الوحدة الوطنية المصرية، وفتاواه المشابهة نحو الثورة السورية، والتي جرّت عليه اتهامات وتجييش وشتائم الإعلام الرسمي السوري.
مع الربيع العربي لم يعد مقبولاً ولا مشروعاً أن تبقى المؤسسة الدينية الرسمية مكبلة اليدين، فثمة ضرورة أن تتحرر من القيود الوهمية وأن تتقدم لتحتل مكانها كاملاً، وتقديم خطاب يناسب التحدي والمرحلة.(الغد)