القابضون على جمر آدميتهم!

- طالما سخرنا من تلك الاصدارات التجارية وغير الجادة لسلاسل من الكتب التي تقدم للقارئ وصفات مطبوخة على بعجل تنصحه بان يقرأ الكتاب كي يصبح مليونيرا في عام او يتقن الانجليزية والفرنسية في شهر او كيف يصبح قائدا او زوجا سعيدا، ونعرف ان من قرأوا تلك الكتب مرات ومرات لم يصبحوا مليونيرات او قادة ولم يتقنوا حتى لغتهم الاصلية كما انهم لم يصبحوا ازواجا سعداء!
لكن ما نراه من وسائل واساليب تجريف الذات الانسانية، وتغريبها بعد افراغها من مضمونها الحضاري يدفعنا الى تقبل كتب تحمل عناوين من طراز كيف تحافظ على آدميتك ولا تصبح مجرد شيء او سلعة؟. وكيف تحافظ على تماسك شخصيتك وثقتك بنفسك ازاء هذه الاعاصير المثقلة بالسموم؟
فالمثقف الذي كرس عمره للمعرفة يوشك ان يردد تلك الاغنية التي تقول انا من ضيع في الاوهام عمره، والوطني الذي لم يتح لاية شائبة ان تتسلل الى وجدانه يشعر بان هناك من يخرجون له ألسنتهم ساخرين لانهم باعوا حتى امهاتهم في كل المزاودات، والعالِم الذي عكف طيلة حياته في مختبره او في الكدح لاكتشاف فيروس او اختراع دواء لمرض عضال، قد يتندر عليه زملاء نكثوا بقسم ابقراط قبل ان تكون المفاضلة بينهم بما يظفرون به من مال وعقار وجاه لا علاقة له بمهنتهم.
فما الذي يمكن لهؤلاء وامثالهم ان يفعلوه ولو من باب الاحتراز كي لا يصدقوا بانهم اخطأوا الطريق او فتحوا الباب الخطأ؟
عليهم اولا ألا يعترفوا بان التاريخ ابتدأ البارحة او حتى لحظة ولادتهم. وان المقياس المهني والاخلاقي لا يخضع لبضعة اعوام التبس فيها كل شيء واختلط فيها نابل القرصنة بحابل الوفاء والامانة.
فالمثقف عليه ان يخصص ولو دقيقة واحدة في اليوم ليتذكر كل ما كتب وكل ما كتب عنه او له او عليه كي لا ينسى وسط هذا الضجيج والعقوق كل شيء مكرسا الان لتذكيره بما يظن الاخرون انه من خسائره.
ان عقاب طبيب نكث بقسم ابقراط وتخلى عن ضوابط مهنته هو مرضاه انفسهم. لانهم شعروا في لحظة ما انهم اشبه بالفريسة التي تم اصطيادها من مرضها ولحظة ضعفها والعكس صحيح ايضا فثواب الطبيب الذي كان كريما مع مرضاه ورؤوفا بهم في لحظة ضعفهم اعترافهم له بالفضل لحظة شفائهم ولا يمكن ان يتساوى في النهاية الذين يكذبون والذين يصدقون، لان كذب العارف انكى من خطأ الجاهل، اللهم الا في تلك الحالات التي تتولى فيها الدببة الحمقى شج رؤوس اصحابها كي تطرد الذباب عن وجوههم. فيسيل الدم على جبين المحروس بالدب وتفرّ الذبابة بسلام.
ويبدو ان الزمن الذي كانت الفهلوة والوصولية فيه من الصفات المنبوذة قد ولى ولو الى حين، فالامين الان هو الساذج والذي لا يعرف مصلحة نفسه كما يقال في معجم المعايير المقلوبة.
وبالنسبة لمن يؤثر الكسب سواء كان عالما او مفكرا فان كل ما يدخره هو لورثته فقط، اما ذلك الذي يعفّ عن الكسب الجشع بدافع الضمير والحرص على تنمية الخبرة فان ورثته هم الناس جميعا سواء كانوا من شعبه او من اي شعب اخر في هذا الكون.
واقولها صراحة وبلا ادنى مواربة ان المتشبثين بجمرة مهنتهم وضمائرهم الان يحتاجون يوميا الى ما يذكرهم بانفسهم وبانهم الماعز الابيض في القطيع الاسود وليس العكس وبانهم البعير المعافى والنظيف في قافلة تحول الجرب فيها الى وباء.
فنسبة ما يسمى الانحراف او الشذوذ في حياتنا يجب ألا تتجاوز خمسة بالمئة كي تبقى كذلك، لكنها حين تنافس اعلى النسب فان الامر جلل، ويهدد الطبيعة الانسانية بحيث تصبح معكوسة ومضادة!
المطلوب الآن كتب لا تَعِد الفقير بالملايين أو الأميّ باتقان عدة لغات. بل تعين الإنسان على البقاء على قيد آدميته!
(الدستور)