غربال بسعة الأرض

المدينة نيوز - لو كان طه حسين حيا، لغير ما قاله واعتذر عنه، فقد طالب هذا الرجل البصير عميان البصيرة ان يكون التعليم حقا لكل الناس، كالماء والهواء وكان من الممكن ان يضيف الكهرباء، وبعد رحيل الرجل بعدة عقود لم يعد الماء مجانيا وكذلك الهواء. فالماء معبأ بزجاجات تحمل مئات الاسماء ولم يعد مجرد ماء فقط، بعد ان انقطعت صلته بالسماء والمطر، والهواء اصبحت تكاليف تبريده او تدفئته تنافس تكاليف اقساط المدارس والجامعات، خصوصا بعد ان اضاف الموبايل الثرثرة ذات الفواتير الباهظة، والشمس على ما يبدو تستحق اكثر من كل ما كتب عنها من اشعار وعرفان، لانها حتى الان لم تقدم فواتيرها للبشر، وكذلك القمر والنجوم اما المطر فله حكاية أخرى تذكرني بما قاله شاعر صديق وهو:
لماذا فيك يا وطني
يباع ويسرق المطر؟
لم يعد في حياتنا شيء بالمجان غير الثالوث الاسود، وهو الفقر والمرض والجهل، اما الهواء فهو باهظ التكلفة، وكذلك الماء، اما الكهرباء فهي المرادف او المعادل الحسي لما يسمى التنوير فكريا وسياسيا في عالم عربي، لو تمكن اعداء التنوير فيه ان يطلقوا النار على الشمس لفعلوا، ولو استطاعوا اعتقال النجوم نجمة نجمة لما ترددوا. ففي احدى مسرحيات الشاعر الاسباني لوركا لا يبقى شاهد على ما يجري على الارض الا القمر. ولو استطاع قطاع الطرق وبلطجية الالفية الثالثة الوصول الى السماء لاغتالوه.
كم كان طه حسين متفائلا، رغم انه لم يخف تشاؤمه من جانب آخر عندما نشر وهو في فرنسا مقالة بعنوان صريح هو اغنياؤنا واغنياؤهم. ويقصد بأغنيائهم رجال المال في اوروبا الذين كانوا ينفقون بسخاء على الثقافة والمشاريع الوطنية، لادراكهم ان احفادهم واحفاد احفادهم سوف ينعمون بهذا الميراث.
المسألة أبعد من الفواتير سواء تعلقت بالماء او الهواء او الكهرباء فالانسان في زمن العولمة التي اختطفت آدميته وحولته الى مجرد سلعة،لم يعد ذلك الانسان الذي قال عنه ارسطو انه أهم من كل الكتب، والانسان الان صغير وضئيل الى الحد الذي دفع ويلهالم رايش الى كتابة عشرات الرسائل اليه في كتاب حمل عنوان الانسان الصغير.
لكن سعاة البريد انقرضوا ولم تصل رسائل رايش الى المرسل اليه!
والكائن الذي اوهمته اختراعاته بدءا من البارود والمكنسة الكهربائية حتى السلاح النووي اصبح عبدا ورهينة لما صنعت يداه. فهو في خدمة المكنسة والتلفزيون والسيارة وحتى الكمبيوتر لانه فقد اثمن مافيه وهو حريته وبالتالي إرادته.
ومن يدري لعل يوما يأتي تتشقق فيه الشفاه من الظمأ ولا يجد الناس ما يغسلون موتاهم به رغم ان المطر غزير وينذر بالطوفان.
وقد يشح الهواء بحيث يستبدل الملياردير أمواله كلها بزجاجة اكسجين، فالفضاء الان مسروق منا، ويتقاسمه طائرة تقصف المساجد والمدارس والبيوت وفضائيات تحولت الى غرف عمليات وجوارح فرت من رائحة مخالبها النتنة كل العصافير.
إنها مناسبة لتكرار الشكر والامتنان للشمس على ضوئها المجاني وبكرم سخي، وللقمر رغم شحوبه، وللمطر الذي يتساقط كما يبدو على غربال بسعة الارض!!
(الدستور)