مرة أخرى عن الرصاص المسكوب على غزة

المدينة نيوز - حرب إسرائيل على القطاع الأسير والمحاصر، لم تتوقف، ورصاص جنرالات "الجيش الذي لا يقهر" ما زال يُسكب على رؤوس أبناء القطاع وبناته، شيوخه وأطفاله...والعنصرية الإسرائيلية البالغة ضفاف الفاشية، ارتضت على نفسها، تحويل القطاع بكل ساكنيه وأهله، إلى حقل اختبار "للقبة الحديدية"...لقد باحوا بالسر، وكشفوا للملأ، أن حربهم المتجددة إنما أُريد لها وبها، أن تختبر فاعلية "صواريخم المضادة للصواريخ"...هكذا وبكل صفاقة، عشرات الشهداء، وأضعافهم من الجرحى، يسقطون بدم إسرائيلي بارد، والهدف، اختبار الجيل الجديد من أسلحة الدمار الإسرائيلية.
لقد حافظ القطاع على التهدئة، وحفظت الفصائل التزامها وعهدها بعدم البدء بإطلاق الصورايخ على المستوطنات...لكن "العسكرية الإسرائيلية"، التي تأسست على المذابح والمجازر، تأبى الالتزام بأي عهد أو ميثاق...وتصر على مواصلة حروبها البربرية ضد السكان الآمنيين...أما الذريعة، التي تُساق لتبرير العدوان، فلا أسهل من استخراجها من الأدراج، فهي صالحة لكل زمان ومكان: "إرهابيون يخططون لتنفيذ عملية ضد إسرائيل، والجيش يقوم بعمل استباقي لحماية المدنيين"...قالوا ذلك في كل مرة نفذوا فيها هجوماً عدوانياً على الشعب الفلسطيني، في الوطن الشتات...رددوا العبارة ذاتها، حتى وهم في يقتحمون مقرات منظمات غير حكومة ومؤسسات إعلامية، وعلى مبعدة أمتار قلائل من "المقاطعة".
لكن إسرائيل في حربها على غزة، تريد فضلاً عن ذلك، "ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد"...هي تريد اختبار الشوارع العربية في عصر "ربيع العرب"...تريد قياس صبر الشارع والنظام المصري الجديد على سياسة "الاستفراد" بقطاع غزة...تريد "الدخول على خط المصالحة الفلسطينية" لتعطيلها وعرقلتها...تريد "الدخول على خط الحوار الداخلي" في حماس، بما يمكن الأصوات الأكثر تشدداً من أن تصبح "الأكثر علوّاً" على أصوات الاعتدال والمصالحة داخل الحركة...تريد اختبار "حلفها المقدس" مع الولايات المتحدة، خصوصاً بعد إعلان أوباما بأن دعم إسرائيل، واجب يرقى إلى مستوى "القداسة" في سياسة إدارته الحالية.
وفوق هذا وذاك، أنظر لهذه الحرب المصممة على مقاسات "المختبرات النازية الجديدة"، بوصفها "بروفة" لحروب إسرائيل المقبلة، على الجبهة الشمالية مع حزب الله، وعلى الجبهة البعيدة مع إيران...فإذا كانت إسرائيل تعرف جيداً حدود "الطاقة النارية" للقطاع وفصائله، ويمكنها التحكم بالمسألة برمتها، وتحديد ساعة بدء الحرب وساعة انتهائها، فإنها لا تمتلك مثل هذا "الترف" في ساحات وميادين أخرى، وإذا كان من حاجة لاختبار "القبة الحديدية" فليكن في ذلك "في مختبر غزة" وليس على الجبهات المفتوحة شمالاً وشرقاً.
المؤسف حقاً، أن حرب إسرائيل على غزة تأتي في خضم الحديث عن جهود ومحاولات محمومة"لإنقاذ عملية السلام واستئناف المفاوضات"، وتستبق بأيام أو ساعات، الرسالة الفلسطينية الموعودة لنتنياهو، وتأتي بعد أيام قلائل على المؤتمر الدولي للتضامن مع القدس الذي التأم في الدوحة...لكأن إسرائيل تريد أن تقول لكل هذه الأطراف مجتمعة: إذهبوا حيثما شئتم في محاولاتكم ومؤتمراتكم ورسائلكم، وأنا سأذهب حيثما يستيطع "سلاح الجو" أن يصل في القتل والإغتيال والتدمير.
إنها لحظة الاختبار الحقيقي لخيار المصالحة والاستراتيجية الفلسطينية البديلة التي يجري الحديث عنها بكثافة هذه الأيام...إنها لحظة الاختبار لثورات ربيع العرب وأنظمته المنبثقة عنه، خصوصاً في مصر...إنها لحظة الامتحان للجامعة العربية التي أقامت الدنيا ولم تقعدها لوقف عدوان النظام السوري على شعبه، وتقف متفرجة أمام عدوان إسرائيل على شعب فلسطين...إنها لحظة الامتحان لخيارات العسكرة والتسليح والتحشيد الدول التي امتهنتها بعض الدول العربية، تحت مظلة الجامعة، لنرى أن كان هؤلاء يجرؤون على الهمس، مجرد الهمس بتسليح المقاومة الفلسطينية وعسكرتها وفتح الجبهات أمامها، وإقامة ممرات إنسانية وتوفير ملاذات آمنة للفلسطينيين في وطنهم المحتل والمحاصر...إنها لحظة الاختبار الأقسى لكل "العنتريات" التي لا تتجلى ولا تأخذ حدها الأقصى، إلا حين يتصل الأمر بالنزاعات العربية البينية، أما حين يتعلق الأمر بغطرسة إسرائيل وعدوانها، فلا نستمع إلا لأصوات "الحكمة" و"التعقل" و"الصبر والمصابرة".
لقد غضب بعض العرب لأن نظام دمشق ماطل في قبول مبادرتهم لحل الأزمة السورية...لكن هؤلاء أنفسهم، لم يتأففوا، مجرد تأفف، وهم يرون المماطلة الإسرائيلية في قبول مبادرتهم لحل القضية الفلسطينية وهي تدخل عامها العاشر من دون أن تحرز أي تقدم...لم يحركوا ساكناً وهم يرون القتل والتشريد والتهويد و"الأسرلة" والاستيطان، يأكل الأرض والحقوق معاً....ألا تذكرون مبادرة "حمل ملف القدس إلى مجلس الأمن"...أين انتهى مصيرها...وكيف يجد هؤلاء الوقت كله، لعرض المشروع تلو المشروع والمبادرة تلو المبادرة، على مجلس الأمن والجمعية العامة والمجتمع الدولي، بخصوص سوريا، ولا يكلفون انفسهم عناء إصدار بيان عن حكوماتهم ووزرات خارجيتهم، تنديداً بالعدوانية الإسرائيلية، ولو من باب رفع العتب.
نوايا إسرائيل، معروفة، الكامنة منها والمعلنة...لكن نوايا هؤلاء هي التي تحتاج إلى فحص وتمحيص...وأحسب أن الرصاص المسكوب على غزة المحاصرة، قد وفر لنا فرصة إضافية لكشف المستور، وسبر أغوار الخبيء والخبيث من هذه النوايا والأهداف والمزاعم...فهل نتعظ ؟!
(الدستور)