لا بد من مكة وإن طال السفر

المدينة نيوز - يؤدي كثيرون العمرة، وعروض السفر مغرية، لدرجة بات سهلا على كثيرين أن يسافروا من أجل أداء العمرة في مكة المكرمة.
قرب الأردن من الديار المقدسة ميزة كبيرة، لأن السفر الى تلك الديار لا يتسبب بتعب بدني كبير إن كان برا لقرب المسافة ولا يتسبب بكلف مالية مرتفعة ان كان جوا، وهذه نعمة عظيمة لأنك ترى في مكة المكرمة كيف يأتي مسلمون من آخر الدنيا وترى بعضهم كيف يصاب بإغماء من فرط الشوق لبيت الله الحرام الذي بقي امنية لعشرات السنين في قلب هذا و ذاك.
حول الحرم في مكة تتطاول الأبراج وبعضنا يتضايق من رؤية الأبراج وارتفاعها، والضيق هنا يبقى معنويا لأن لا حكم شرعيا يمنع بناء عمارات مرتفعة، والعلاقة بالكعبة هي ذات العلاقة اذ يؤدي المرء الصلاة في نيويورك المقام فيها عشرات ناطحات السحاب والجغرافيا هنا حالة مادية لا قيمة لها لأن الكل يصلون باتجاه الكعبة من قرب وعن بعد، غير انها تبقى قصة التقدير والاحترام لذلك المكان العظيم وهو التقدير الذي يتسبب بتحسس البعض من تطاول العمارات والأبراج حول الحرم.
لابد من مكة وإن طال السفر، فأي غياب هذا الذي نغيبه عن بيت الله واغلبنا قادر ماليا على الذهاب كل فترة حيث ينفق المرء أضعاف كلفة العمرة على قضايا اجتماعية احيانا وعلى متطلبات الحياة الإضافية لكنه ينسى زيارة بيت الله ولا أغبط إلا ذاك الشخص الذي رأيته ذات مرة يرسل على حسابه عشرة ايتام سنويا الى العمرة بترتيب مع احدى الجمعيات ويذهب معهم، فتتأمل الخير الذي يصيبه اذ يبر الأيتام ويرسلهم ايضا الى العمرة برا ويطوف معهم ويحنو عليهم طوال العمرة وغيره تعلموا منه حيث يرسلون يتيمين او اكثر والكلفة لا تعادل كلفة عشاء في بيت احدنا في بعض الحالات!
عند الكعبة يشرق النور على قلبك، وتتأمل حال الناس وتستذكر ان الناس في لهاث فارغ ولا يبقى لهم إلا عمل المعروف وبر الوالدين وطاعة الله ومثل هذه الأوقات التي يمضيها عند بيت الله تطوف وتستذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ...كان هنا....طاف هنا....شمس الرسالة اشرقت هنا والوحدة بين البشر تتجلى هنا بأجمل صورها البهية.
لم يعد ممكنا حث الناس على الفضيلة عبر الأمر والنهي فقط، لأن هناك من ينافسك ويحث على اشياء اخرى، وإذ اسأل احدهم عن سر ارساله الأيتام على نفقته كل عام الى مكة المكرمة يقول: هؤلاء اعمارهم صغيرة، وطبعهم بطباع الخير مبكراً يكون بزيارة مثل هذه فنزرع في قلوبهم الخير والنور ويبقى الواحد متعلقا بمكة المكرمة وبتأثيرات الزيارة التي مهما فرط بها لاحقا ستبقى تلاحقه لتذكره بدينه قائلا: لو كل واحد فينا ارسل يتيما واحدا الى العمرة سنويا لأنقذنا عشرات الآلاف من الضياع ولو توافرت برامج في المدارس والمساجد لارسال الطلبة بشكل دائم وغير موسمي لما تركنا كل هذه الأجيال مختطفة.
ليس من جمال كجمال الكعبة عن قرب، وليس من صيام نوراني كصيامك وافطارك في مكة المكرمة داخل الحرم، واهل مكة والمدينة المنورة ايضا لهم طباع جميلة في هذا الصدد حين يمدون موائد الإفطار للصائمين وحتى بعض المعتمرين يذهبون ويشترون التمر ويقدمونه ايضا للداخلين الى الحرم عند المغرب يومي الاثنين والخميس.
يا لها من لحظات لا تتكرر في حياتك حين الوقوف عند باب الملتزم، والدعاء من قلبك لله بيقين كبير، فلا علاقة قائمة على الاختبار مع الله, اليقين هو السر كم من انسان فرج الله كربه بعد زيارته لمكة، وكم من انسان طلب من الله ان يشفي مريضه او يفك اسر ابنه او يرفع ديونه وهمومه او يغفر ذنوبه فما عاد خالي اليدين، اذ يستحيل ان يعود خالي اليدين لأنه يطلب من كريم ولا يطلب من بخيل؟!.
لا بد من مكة وإن طال السفر، ننفق اموالنا على كل شيء لكن بعضنا لا ينفق على عمرة يؤديها لأنه يتناساها فقد خطفته الدنيا، وياليته حصل على شيء فهو اختطاف بلا راحة نفس ونتيجة، ولهاث يقطع الانفاس ويسلب الرحمة من البيوت.
يؤذن المغرب فيسارع أحدهم قبل الصلاة، ويخترق الصفوف ليعطر الكعبة عند باب الملتزم بعطر فاخر بكلتا يديه، يصب العطر صبا على حجارة الكعبة، فتتمنى له حسن السمعة في الدنيا والآخرة، وتستذكر ان اهم ما في هذا الدين تلك القيمة العظيمة التي تحثك على الأخلاق قبل أي شيء آخر، والأخلاق هنا عطر الانسان في دنياه وآخرته ايضا، ومسلم بلا اخلاق غرفة معتمة بلا نور مهما ادعى صاحبها انه منسوب ومنتسب لهذه الأمة.
(الدستور)