لا تقتلوهم مرتين

تم نشره السبت 17 آذار / مارس 2012 12:44 صباحاً
لا تقتلوهم مرتين
فهمي هويدي

المدينة نيوز - أغلب الظن أن كثيرين لا يعرفون رندا سامي. وأستحي أن أقول إننى واحد من هؤلاء. ولولا فقرة وقعت عليها مصادفة على موقع «فيس بوك» لما توصلت إلى الاسم، ولما عرفت شيئا عن قصتها الباهرة وبطولتها النادرة ومأساتها العظيمة. لا أعرف من الذي لَّخص قصتها في الأسطر العشرة التي ظهرت على الإنترنت، لكنني أزعم أنه لولاها لظلت قصة راندا سامي طي الكتمان. ولبقيت صفحة مجهولة في سجل نضال المصريين تفخر بها نساء مصر خاصة وتتناقلها حكايات الأجيال بفخر واعتزاز. لذلك فإن راوي القصة يستحق منا شكرا، بقدر ما أن بطلة القصة تستحق منا اعتذارا مقترنا بإجلال وتقدير أرجو أن يوفيها بعض حقها.
ليست لدينا معلومات كثيرة عن الشخصية. وإنما غاية ما نعرفه أن راندا سامي تعمل ممرضة، وأنها انضمت إلى ثوار 25 يناير. في الميدان كانت تتنقل طول الوقت بينهم. تضمد جراح مصاب وتخيط جروحا لآخرين وتقيس الضغط لمن هو بحاجة إليه. وحين تفرغ من كل ذلك كانت تسهم في توزيع الطعام على المتظاهرين والمعتصمين، حتى وصفها البعض بأنها «دينامو» الميدان، لأنها ظلت طول الوقت تتحرك دون توقف أو ملل.
ما جرى يوم 2 فبراير الذي حدثت فيه موقعة الجمل كان بداية التحول في حياتها. كانت تقوم بعملها المعتاد، إذ انحنت فوق رأس أحد المصابين تحاول أن تخيط له جرحا في رأسه. وبينما هي كذلك فوجئت بأحد رجال الأمن وقد انقض عليها محاولا جذب الجريح وإلقاء القبض عليه. إلا أنها منعته واشتبكت معه. وحين عجزت عن مقاومته ارتمت بجسدها فوق الشاب الجريح في محاولة منها لحمايته وإنقاذه من أيدي رجل الأمن. فاستشاط غضبا وظل يضربها على ظهرها بعصاه الغليظة، إلى أن تدخل آخرون فأبعدوا الجندي وخلّصوا راندا والشاب الجريح من ضرباته.
احتملت الضرب بالعصا الغليظة على ظهرها، وقاومت ما شعرت به من وجع واستمرت في تحركها بالميدان، حيث ظلت تتنقل من مصاب إلى آخر ومن تجمع إلى آخر، إلا أن الوجع بدأ يؤلمها ويغالب طاقتها على الاحتمال، لكنها لم تكترث به، وواصلت عملها حتى يوم التنحي، أي أنها ظلت تعمل وتقاوم الألم لمدة عشرة أيام متواصلة، وحينما فاق الألم قدرتها على الاحتمال لجأت إلى أحد الأطباء لفحصها.
بعد الفحص تبين أنها تعاني من تجمع دموي على الحبل الشوكي، وقيل لها إنها بحاجة إلى عملية جراحية، لكن نتيجة العملية كانت صدمة لها. إذ أصيبت بشلل أعجزها عن الحركة، وتم تحويلها إلى المركز التأهيلي للقوات المسلحة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه مما تبقى منها.
لقد قامت الفتاة بعملية بطولية واستشهادية، حقيقية وليست مجازية. إذ ألقت بنفسها فوق الجريح الذي لا تعرفه وتلقت الضربات بالعصا الغليظة على ظهرها. ثم ظلت تواصل عملها النبيل بمداواة الجرحى وتوزيع الطعام على المرابطين في الميدان، وانتهت جثة فاقدة القدرة على الحركة. وملتمسة العلاج في مركز التأهيل المهني.
في حدود علمي فإن 12 شخصا أصيبوا بالشلل جراء أحداث الثورة. ولا أعرف كيف نعبر عن تقديرنا لهؤلاء الأبطال ولا كيف نرد الجميل لهم فيما تبقى لهم من عمر وهم على تلك الشاكلة، خصوصا أن الذي قدموه فوق أي تقدير، وما فقدوه لا يمكن أن يعوّض ــ لكنني أستهول ولا أريد أن أصدق أنهم يعانون من الإهمال وسوء المعاملة في مركز التأهيل. وينتابني شعور شديد بالمرارة والخزي حين أقرر أنني سمعت هذه الشكوى من آخرين، الأمر الذي يجعلنى مستعدا لتصديقها متمنيا أن يسارع أي طرف إلى تكذيبها أو على الأقل إلى تدارك الوضع بحيث توجه الرعاية الواجبة لأمثال أولئك الأبطال، الذين كانت كل جريمتهم أنهم كانوا بين الأعمدة التي حملت الثورة وأسقطت فرعون من على عرشه.
لقد تصورت أن يكون السؤال الذي يتعين طرحه هو كيف تقدم إلى راندا وأمثالها أفضل رعاية استثنائية، ولم يخطر على بالي أن يكون المطلب الملح الآن هو أن تقدم إليهم الرعاية الإنسانية الواجبة التي ينبغي أن يلقاها أي مريض عادي.
لا تقف المفارقات عند ذلك الحد، لأن شعور المرء بالدهشة والحزن لا يكاد يوصف حين يقارن بين حظوظ الأبطال الذين ضحوا بحياتهم لأجل الثورة، وحظوظ غيرهم من الذين استثمروا حناجرهم فقط في الهتاف للثورة. وكيف دفن الأولون في التراب أو في الظلام في حين استأثر الآخرون بالأضواء والوجاهات وأصبحوا يقدمون في مختلف المحافل بأنهم «مفجرو الثورة» وصناع الربيع العربي.
إن مصير راندا وأمثالها في أعناقنا جميعا. ومن حقهم علينا ألا نقتلهم مرتين: مرة بالإصابة الجسيمة التي حلّت بهم، ومرة بالإهمال الجسيم الذي يعانون منه.

(السبيل)



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات