ما نزال في البداية

المدينة نيوز - منذ بداية ثورات الربيع العربي إلى اليوم وهنالك اتجاه من الرسميين والسياسيين العرب يعتقدون فشلها، والعودة إلى ما كنا عليه، من دون اضطرار إلى تقديم "فاتورة ضخمة" في المعادلة السياسية.
يقف وراء هذا الرهان وصول الإسلاميين إلى السلطة في تونس ومصر والمغرب، ما يثير القلق بأنّنا أمام "استعادة" نماذج مجرّبة فاشلة، والفوضى والاضطراب في كل من تونس وليبيا، واستعصاء النظام السوري، ما يحاصر "عدوى الثورات" وانسيابها من مكان إلى آخر.معضلة هذا الرهان أنّه يقوم على فرضية خاطئة، بل كارثية، بأنّ المعادلات الراهنة ما تزال صالحة للاستعمال.
وهذا غير صحيح بتاتاً، فهذه المعادلات لم تنته مع الربيع العربي، بل قبله بكثير، فضلاً عن "جراثيمها الذاتية"، فهي خلال العقود الأخيرة أصبحت عاجزة تماماً عن مسايرة التحولات الاقتصادية والمجتمعية، والإجابة عن التحديات الكبرى.
في السنوات الأخيرة؛ بدت علامات الوهن والضعف والعجز جليّة على هذه الأنظمة. وأكملت التطورات التقنية في مجال الإعلام والمعرفة المهمة بالإجهاز على قدرة هذه الأنظمة المتبقية في القمع والحصار والسيطرة على المعلومات والاتصالات، حتى في دولة شمولية مثل سورية، تمنع الإعلام من تصوير الاحتجاجات والثورة، تمكن المواطنون أنفسهم من توثيق ما يحدث بما يفوق أي إعلام آخر من خلال (اليوتيوب).
ما يؤخّر وصول التغيير إلى بعض الدول اليوم هو قدرتها على تخفيف حجم الأزمة الاقتصادية والمالية على المواطنين عبر اقتصاداتها النفطية. ذلك محدود تماماً، فنحن ما نزال في البداية، والدورة الجديدة في التاريخ ستطرق باب الجميع سواء اليوم أو غدا أو بعد غد.
بيت القصيد أنّنا إذا نظرنا من مختلف الزوايا إلى "اللحظة الانتقالية" الراهنة في العالم العربي سنقرأ: انتهاء حقبة وأفولها وبداية أخرى جديدة. صحيح أنّنا لا نعرف بصورة دقيقة صورة مشهد العالم العربي في المرحلة القادمة، ولا ما ستؤول إليه التحولات الجديدة، لكن ما هو أكيد أنّ الشعوب العربية أنهت عهد الأصنام والخطوط الحمراء، وتمرّدت تماماً على ثقافة العصور الوسطى المسكونة بالخوف والرعب من الأمن والسجون والسلطات، فقد اختارت طريق الحرية والتحرر والانعتاق للأبد من تلك الثقافة التي أرهقتنا قروناً طويلة.
ما هو أكيد أيضاً- أنّ الديمقراطية اليوم أصبحت مرام الجميع، يدركون أهميتها ومعناها ويريدون الوصول إليها بوصفها نظامنا العربي القادم، وهي الشعار الوحيد الذي رفعته الشعوب في ساحات التغيير في مختلف البلاد، وهي المرّة الأولى في واقعنا المعاصر الذي ينتقل فيه المواطن إلى قلب المسرح ليعلن "موت الدكتاتور وولادة الديمقراطية"، فهو تحول تاريخي ثقافي وسياسي لا يمكن أبداً الرهان على أنّه "سحابة صيف" عابرة، ثم تعود الأمور لمجرياتها!
بالضرورة، لن تكون التطورات القادمة بالدرجة نفسها والانسيابية والتسلسل المتشابه، فظروف المجتمعات ودرجة تطورها وشروطها التاريخية والثقافية تختلف، ولم تنتقل أوروبا إلى الديمقراطية بصورة متشابهة ومراحل متجانسة، فلكل حالة خصوصيتها، إنّما ما بتنا متأكدين منه اليوم أنّنا نطوي الآن صفحة الحقبة السابقة ونفتح كتاباً جديداً.
مهمة النخب القيادية التاريخية اليوم هي أن تعبر ببلادها إلى برّ الأمان، وإلاّ فإنّ البديل ليس استمرار الوضع الراهن، بل متاهات وأزمات قاتلة، كما يحدث في سورية اليوم. فالرهان على استمرار المرحلة السابقة بسماتها الرئيسة، مع إحداث بعض التعديلات، هو رهان خاطئ، يرفع من حجم الكلفة المطلوبة للعبور الآمن بعيداً عن الاضطراب والفوضى.
(الغد)