إلى من يقللون من المبادرات الرمزية

أصدرت السفارات الإسرائيلية حول العالم العام الماضي بيانا لكل مواطنيها تطالبهم بتقديم أيّ معلومات عن أملاكهم أو أملاك أهاليهم التي صودرت أثناء الهولوكوست لمبادرة «HEART»، وهي مبادرة لمشروع غير ربحي يتبع للوكالة اليهودية من أجل «إسرائيل» وتدعمه الحكومة الإسرائيلية ويهدف إلى المطالبة بتعويض الضحايا وأحفادهم عن الأملاك المنقولة وغير المنقولة التي تمّت مصادرتها منهم أثناء سنوات اضطهاد اليهود في أوروبا وغيرها، ولعلّ الخبر الذي تناقلته وسائل الإعلام عن طلب «إسرائيل» من السعودية التعويض عن أملاك اليهود في المدينة وخيبر يأتي ضمن هذا المشروع الذي يحرص كل الحرص على تذكير اليهود أولا بحقوقهم وعدم التفريط فيها وعدم سقوطها أو نسيانها بالتقادم أو الرضوخ للأمر الواقع، وتذكير الشعوب حول العالم بأخطائهم المزعومة ضد اليهود، وما يتبع ذلك من كسب التعاطف السياسي والاقتصادي.
يصرّ الإسرائيليون على أن لا ينسى العالم ما اقترفه البعض حقيقة أو مبالغة بحق اليهود ولو بالإشارات والمبادرات الرمزية، ويقيمون الاحتفالات السنوية حتى تتوارث الأجيال الشابة الذكرى عن الكبار، بينما يتقن بعض العرب من القيادات فن التنازل والتناسي، بل ويتجرؤون على نقد المبادرات الرمزية والتقليل من شأنها وأثرها في إحداث تغيير ملموس على الأرض ويقولون: ماذا ستفعل المسيرة، وماذا سيحصل لو احتفظنا بمفاتيح دورنا والقواشين، ووثّقنا ذاكرتنا وتاريخنا الشفوي هل ستزول «إسرائيل» وتختفي عن الوجود؟!
غير أنّ هذا المنطق السخيف غير موجود إطلاقا عند العدو الذي تعلّم بالتجربة أنّ الإصرار على المبدأ مهما كان الضعف والاستصغار حال الشعب، هو بداية تحقيق الحلم والانتصار، لقد تعلّموا الدرس من شرذمة قليلة اجتمعت ذات يوم في بال في وقت كانت أوروبا تعامل اليهود كالجرذان وتعزلهم في أحياء خاصة كالمرضى، ولكن اجتماع أولئك وأملهم وعملهم مكّن الإسرائيليين اليوم من بلوغ العلو الأكبر لهم، ولو بقيت شرذمة بال تندب حظها وسوء أحوال اليهود واستحالة استرجاع وبناء ما يظنونه دولتهم المقدسة لما قامت ل»إسرائيل» قائمة!
إنّ الهولوكوست الفلسطيني المستمر في استهداف الأرض والإنسان والتاريخ يحتاج أيضا لمن يوثّقه ويظل يقرع على الآذان تذكيرا به، والساحة الفلسطينية لا تخلو من مبادرات رمزية وفردية تسعى لتوثيق الحق والذاكرة الفلسطينية كأطلس فلسطين والقرى المدمرة والمجازر والتراث.
إنّ من يخذلون ويثبطون أصحاب المبادرات هم الذين فرّطوا ويفرّطون بفلسطين من فوق وتحت الطاولة ولا يكتفون بالمساومة عليها فقط، بل يضعون العصى في الدواليب ويعطّلون المراكب السائرة التي ما زالت تحلم أنّ مرافىء يافا وحيفا وعكا ستعود لتحتضن سفن العائدين.
لقد آن لنا أن نفهم ونعمل بالدرس الذي فهمه أعدائنا قبلنا وهو أنّ الحق، وحتى الباطل، لا يضيع ووراءه مُطالب.
المسيرة تؤثّر والكلمة تؤثّر والمفتاح يذكّر والقوشان والثوب والصورة كلها رموز تحفظ الذاكرة وتحفظ الهوية وتثبت أنّ الشعب والقضية عصيان على النسيان.
وصدق الشاعر إذ قال:
ذُبح المؤذن في مساجد قريتي فانهض صلاح الدين وداوي بعض جراحي
وابلغ أبا حفص بأنّ بيوتنا هُدمت وظلّ الرمز بالمفتاح
(السبيل)