زهر اللوز والربيع وأحابيل البلاغة!

1- في الذكرى الأولى لعودة زهر اللوز، ماذا عساك تكتب، وصاحبة الذكرى غائبة؟ فلمن تكتب؟ وقد كتبت ذات يوم، فأدميت القلب؟ هي إذن كتابة بأثر رجعي، عن يوم أم أو عيد أم، سيان، مر دون أن تتوقف أمامه، لانشغالك بمراقبة الأفق، عله يشرق بخيط نور!
أكتب إليك برموش العين ، وقد بللها ندى الشوق والحرقة ، أكتب إليك ، وقد كنت أتمنى أن تكوني بيننا الآن ، كي تشهدي ما عشت طول العمر ترجين وتأملين أن تريه ، فها هم زغب القطا وأشبال جيلك الذين تجرعوا مرارات الهزائم والقهر ، ها هم يعيدون كتابة سيرتهم وسيرتكم غير الذاتية ، بجمر الحرية ، ها هم يعيدون الاعتبار لكن يا أمهات العرب ، اللاتي غادرن على عجالة ، هما وغما وكمدا ، على حال الأمة ، ها هم ينيرون أول عيد أم في التاريخ العربي المعاصر ، مكللا بالنصر والنرجس ، ها هم يعتذرون لزهر اللوز ، الذي نور مائة عام ، بخجل وحزن ، وآن له أن ينور هذا العام ، بكبرياء وعنفوان وشموخ ، كما لم ينور في أي ربيع كان،.
أكتب إليك ، يا أم ، وقد تجمعت فيك كل أمهاتنا العربيات ، اللاتي رحلن حسرة على رؤية يوم انتصار ، فأرجو لو أهز بيميني سريرك الترابي ، فتُبعثين من رقدتك الأبدية ، لتهزي مع أبناء هذا الشعب العربي العظيم قلاع الطغاة والاستبداد ، الذين ربضوا على صدورنا سنين عددا ، لتتداعى على رؤوسهم ، بعد أن دفعتن أنتن أمهات العرب ، كل أعماركن حسرة وغيظا، جراء ما فعلوا بنا وبكن ، فلكل أم منكن قصة وحكاية مع هؤلاء ، فكم توارى الأبناء خلف الشمس ، وكم من ابن عاد قتيلا ، أو تحول لرقم في مقابر الغرباء ، أو مجرد ذكرى ، فقد غادر البيت ذات يوم لاهثا وراء مستقبله ، فلم يعد حتى الآن ، وتحول لطيف في سجل المفقودين ، أو صورة تخبئها أمه بصدرها قريبا من القلب ، تروي له كل ليلة حكاية الظلم والقهر،.
أكتب إليك، وقد هاجت الذكرى في الخاطر ، فقد كنت جزءا من جيل ، كان يُداري الضحكة ، كأنه يعتذر عنها ، يصحو أول أعضاء الأسرة ، ولا ينام قبل أن يتفقد آخر الغياب ، وها أنت تغيبين ، وقد عاد الربيع ، أول ربيع ، منورا بزهور الحرية ، كما لم ينور من قبل،.
أكتب إليكً ، وأمهات العرب في بيداء العرب ، ينتظرن الهدايا ، ولكن ثمة آلاف الأمهات ينتظرن عودة الأبناء من سجون ذوي القربى ، وسجون العدو الصهيوني ، فكلها سجون ، ولكن السجين في سجون العدو يسمونه أسيرا ، أما في سجون ذوي القربى ، فهو آبق مندس أو عميل لجهات خارجية ، أو متمرد على الظلم ، أو خارج على «ولي الأمر» فمتى تعود الفراخ إلى أعشاشها ، وتتدثر بدفء الأمومة ، بعد أن أكل صقيع وهجير السجن زهرة الشباب ، وهدأة الكرى..
2- مخاوف مخاوف ، أنى اتجهت تستمع إليها ، تكاد تفقدك عقلك ، مخاوف من أي تغيير ، ومخاوف من أن لا يحصل أي تغيير ، وأخرى من ثمن هذا التغيير ، ورابعة من ذهاب ريح التغيير بمكتسبات صغيرة شخصية ، وخامسة من استثمار التغيير ، وسادسة من ركوب موجاته ، وسابعة من عبثيته ، باعتبار أن بعض الشعوب غير صالحة للتغيير ، فوضى من الرؤى تبعد عنك أي أحلام بلحظة استرخاء تحت شجرة لوز،.
زهر اللوز الذي يشبه الثلج القطني الذي يهبط علينا بين موسم وآخر ، تحول إلى زهر أحمر ، له أشواك تُدمي ، ورائحته العبقة بالمخمل ، تحولت لدخان مشبع برائحة اللحم الآدمي المشوي ، كان مصطفا في قبيلة الربيع ، وإذ به يلحق بجحافل العاصفة الهوجاء ، التي لا تبقي لا بتلات ولا نحلات ، ولا غبار طلع ، لكأننا هذا الموسم لن نأكل لوزا ، بل سيأكلنا بسميته العالية ، وتشوهه بدخان النفط وغبار الصحراء.. حزن دفين كبير يتفجر في القلب ، يقاومه تفاؤل لوزي مشوب بالأمل ، أن تزهر أماني الشعوب ، فتعيش ربيعها المأمول ، دون ثارات أو حسابات تفسد لذة النصر ، فالجروح العربية هذه الأيام كلها في الكف ، والمواجهات عربية - عربية !
لوصف زهر اللوز، لا موسوعة الأزهار تسعفني ، ولا القاموس يسعفني.. سيخطفني الكلام لأحابيل البلاغة ، والبلاغة تجرح المعنى وتمدح جرحه ، كمذكر يملي على الأنثى مشاعرها. فكيف يشع زهر اللوز في لغتي أنا ، وأنا الصدى؟ وهو الشفيف كضحكة مائية نبتت على الأغصان من خفر الندى.. وهو الخفيف كجملة بيضاء موسيقية.. وهو الضعيف كلمح خاطرة.