لا لم يكن التغيير ببساطة

احتفل كثير من المراقبين والسياسيين بإنجاز الديمقراطية الفرنسية في انتخابات الرئاسة التي أسقطت رئيسا بعد دورة وجاءت بمنافسه عبر صناديق الاقتراع، وهللوا لهذه السلاسة والنزاهة والشفافية في انتقال وتداول السلطة، وندبوا الوضع العربي الذي تتساوى جمهورياته وملكياته مع الحكم الفرعوني الذي لا يزول إلاّ بموت الحاكم، وحتى عندها لا يزول بل ينتقل في صلبه وعائلته كابرا عن كابر، بل من المسوغ والمقبول أن يزول الشعب ولا يزول الرئيس، حتى أصبح شعار \"بالروح بالدم نفديك يا رئيس\" يطبّق قصرا وبطشا على الشعوب التي سالت دماؤها حتى يبقى الرئيس في كرسيه.
يجهل المعلقون أنّ ما رأيناه في فرنسا ليس إلاّ الحلقات الختامية في مسيرة الديمقراطية التي ابتدأت بالثورة الفرنسية التي ما زال العالم يستلهم مبادئها ونظريات مفكريها كروسو وفولتير وروبسبير، وكانت ممهورة بالتضحية والدماء والحرمان حتى أنّ 16 ألف مواطن فرنسي ماتوا بعد الثورة التي تؤرَّخ رسميا بسقوط سجن الباستيل هذا غير الألوف المؤلفة التي ماتت قبلها وخلالها من أجل تحقيق شعارهم: \"الحرية والإخاء والمساواة\"، بل إنّ المراحل الحاسمة في الثورة تكللت بالإطاحة برأس الحكم الذي لم يأخذ الشعب به رأفة ولا رحمة بل أصرّوا على قتله بالمقصلة هو وزوجته انطوانيت التي أرادت أن يأكل الشعب بسكويتا وهو لا يجد رغيف الخبز، وتبعها مراحل وضع الدستور وتشكيل المجلس الوطني الذي أقرّ الجمهورية في فرنسا
كان يمكن للملكية والأنظمة الامبراطورية أن تستمر في جميع أنحاء أوروبا وفرنسا خصوصا، لولا صمود الشعب الفرنسي وتضحياته الجبارة واتحاد طبقاته العاملة والوسطى وبعض أعضاء البرجوازية والنبلاء من أجل الإصلاح، لقد فهموا الدرس التاريخي الذي قرأوه في سيرة الأمم والشعوب السابقة جيدا بأنّ السلطة لا تأخذك على محمل الجد حتى يسيل دمك، وأنّ تحرير الشعوب من حرصها على حياتها ورزقها وتبنّيها للقيم الإنسانية سيحررها من الخوف من الاستبداد، فالحرية قيمة عليا والعدالة قيمة أعلى ولن تتحققا بالحديث المنطقي فقط في آذان صماء أو الحوار مع خشب مسندة تقول لشعوبها ما أريكم إلاّ ما أرى وما أهديكم إلاّ سبيل الرشاد!
لقد عايشت فرنسا تطرفا سياسيا في مرحلة اليعاقبة Jacobins، وعاشت مرحلة الثورة المضادة والانقلاب على الثورة من قبل نابليون وتأسيس الامبراطورية، ثم مزيدا من التضحيات والدماء حتى استقرت الأمور وعادت فرنسا إلى النظام الجمهوري الديمقراطي الذي يراه العالم الآن يخلع رئيسا وينصّب آخر بقرار المواطنين الذين ضحّى أجدادهم حتى استقرت الأمور لأحفادهم على ما يحبّون ويحسدهم عليه العالم الثالث.
من قرأ التاريخ الإنساني يرى أنّ التغييرات السياسية السلمية نادرة الحدوث، فالسلطة أثيرة للنفس كغلاء الروح ومن رضع من قوتها لا يخليها طواعية حتى يضمّه القبر، ويستثنى من ذلك أصحاب الدين والضمير الحق ومن لجم الشعب نوازعهم بالقانون، وإذا كانت السلطة لا تتعلّم من دروس التاريخ وعواقب المستبدين، فالأولى بالشعوب أن تتعلم أنّ التغيير سُنّة وطريق سار عليه مَن قبلنا فحققوا النتائج، فمن أراد الوصول ما عليه إلاّ أن يتبع الدرب، والناظر في ثورات العرب يجد أنّ التضحية في منحى تصاعدي من أول ثوراتهم في تونس إلى آخرها في سوريا، ولكن الاستبداد أيضا تصاعد وتزايد فينا سنوات وصبرنا عليه سنوات، والتحدي الآن أن نصبر على تغييره.
لا لم يتم التغيير في فرنسا ببساطة ولن يتم ببساطة في غيرها، فليس في إدراك المجد أيّ بساطة، ومن أراد الشهد أو الحرية فلا بد له من إبر النحل، هكذا كانت السنن وهكذا ستستمر \"أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إنّ نصر الله قريب\".
سلعة الحرية والإصلاح غالية لا يقدر على ثمنها إلاّ قليلون يرون الحياة بدونها لا تساوي شيئا، فماء الحياة بذلة حنظل، والعيش بذلّ كالعيش في جهنم.