أحابيل السياسة

1- مدخل
في هذه الحلقة عن أحابيل السياسة وحبالها نواصل رحلتنا مع اللغة، وإن كان كثير من أعز الأحباب قد راجعني طالباً الكف عن وجع الرأس في اللغة. وأحترم ما قالوا، وقد أقللت، لكني سأواصل التخفيف وأعاود بين الفينة والفينة على أقل المساحات، وأستثني اليوم لأن اللغة في جملتها في هذه الحلقة تدور على بعض الأحاديث.
وتكلمنا بعد اللغة عن الحبال في السياسة والرياضة، ثم التوظيف الفني للحبال في الرسم التشكيلي، وختمنا الحلقة بتلخيص مقال: ثلاثة أيام في جهنم، ينقل عن العهد الجديد كلاماً عن المسيح جدير بأن يقرأ لنحمد الله على ما أكرمنا من دين صحيح، بريء من كل تجديف بحق المسيح. أما علاقته بالحبال فتقرؤها من خلال المقال. فإلى المقال في الحال.
2- الحبال في اللسان.. وصال الحديث
كنا في صحبة "اللسان" توقفنا في حلقة سابقة عند الحديث: "نهى عن بيع حَبَل الحَبَلة" وذكرنا وجوه المعنى، وفي هذه الحلقة نواصل الرحلة، قال اللسان: وقال أبو عبيد: حَبَل الحَبَلة: نتاج النتاج، وولد الجنين الذي في بطن الناقة، وهو قول الشافعي. وقيل: كل ذات ظفر حبلى. (يعني أن الأقوال في المعنى: الجنين الذي في بطن الناقة، أو كما قال أبو عبيد: ولد ولد الجنين، والمعنى الآخر عمم ليس ما في بطن الناقة فقط، بل البقر والغنم وكل ذات ظفر على العموم. وقلنا في حلقة سابقة إن من احتمالات المعنى: بيع الثمر قبل أن يزهي أي قبل بدو صلاحه، والحبلة كما تصح في الحيوان تصح في النبات، وهذا من سعة اللغة وبدائعها وعجائبها وغزارتها وغناها..) قال (مستشهداً على كل ذات ظفر): "أو ذِيخةٍ حبلى مُجِحّ مقْرب" 2/558
(قال اللسان 2/1085: "الذيخ": الذكر من الضباع الكثير الشعر، والأنثى "ذيخة" والجمع ذيخات ولا يكسَّر.. وذكر حديث القيامة.. والخليل عليه السلام.. فلا نطيل.. ونكتفي بالقليل.. وابتعاداً عن الإشكال الذي في حديث "الخليل"!)
قال الأزهري عن يزيد بن مرة: نهي عن حبل الحبلة، جعل في الحبلة هاء، قال: وهي الأنثى التي هي حبَل في بطن أمها فينتظر أن تنتج من بطن أمها، ثم ينتظر بها حتى تشب، ثم يرسل عليها الفحل فتلقح، فله ما في بطنها. ويقال: حبل الحبلة للإبل وغيرها. قال أبو منصور: جعل الأول حبلة بالهاء لأنها أنثى فإذا نُتجت الحبلة فولدها حَبَل.
قال: وحبل الحبلة المنتظرة أن تلقِح الحبَلة المستشعرة هذي التي في الرحم، لأن المضْمرة من بعد ما تُنتَج إمّرة. وقال ابن خالويه: الحبَل ولد المجْر وهو ولد الولد. وقال ابن الأثير في قوله: نهي عن حَبل الحبَلة. قال: الحبَل بالتحريك، مصدر سمي به المحمول كما سمي به الحمْل، وإنما دخلت عليه التاء؛ للإشعار بمعنى الأنوثة فيه، والحبل الأول يراد به ما في بطون النوق من الحمل، والثاني حبَل الذي في بطون النوق (قلت: وأنا أنقل هذه الكلمات من المعجمات، كم خدم هذه اللغة من مواهب وعبقريات، وكم تواردت على هذا النبع الصافي عقليات وكفاءات ففتقت المعاني ووسعت البناء أو (المباني) وزادت في ارتفاع المبنى درجات وطبقات، وتقدمت باللغة ونقلتها نقلات، فسبحان من سخر لهذه اللغة الشريفة هذه القدرات والكفاءات فجاءت وجادت بهذه اللفتات والنفحات والعطاءات!).
ونواصل مع اللسان: وإنما نُهي عنه لمعنيين: أحدهما إنه غرر وبيع شيء لم يخلق بعد، وهو أن يبيع ما سوف يحمله الجنين الذي في بطن أمه على تقدير أن يكون أنثى فهو بيع نتاج النتاج، وقيل: أراد بحبل الحبلة أن يبيعه إلى أجل ينتج فيه الحمل الذي في بطن الناقة، فهو أجل مجهول ولا يصح. ومنه حديث عمر (رضي الله عنه) لما فتحت مصر: أرادوا قسمها فكتبوا إليه، فقال: لا حتى يغزو منها حبَل الحبَلة، يريد حتى يغزو منها أولاد الأولاد، ويكون (يقصد التعبير) عاماً في الناس والدواب أي يكثر المسلمون فيها بالتوالد، فإذا قسمت لم يكن قد انفرد بها الآباء دون الأولاد، أو يكون أراد المنع من القسمة حيث علقه على أمر مجهول.
ويواصل اللسان بعد فتح مصر ورفض عمر الاستراتيجي النظر في توزيع غنائمه وفيئها حتى يكثر المسلمون لا أن يستأثر بالثروة جيل، ويستنزف المدخر حفنة أو مجموعة، وهذه روح النص القرآني: "كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم" ونكتفي إلى هنا ونواصل في حلقة تالية مع اللسان.
3- الحبل في الرياضة.. والسياسة.
أ‌- "نط" الحبل. والقفز على الحبال.
الأولى لعبة مفضلة للصغار، وخاصة الفتيات، والثانية أي القفز لعبة مفضلة للانتهازيين، فهم يستعملون "الحبال" في التسلق، وكلما "اهتز" حبل انتقل إلى حبل آخر، أو كما يقولون: ينقل البندقية من كتف إلى كتف. ومتسلقو الجبال لا يستغنون عن الحبال، ومتسلقو الأوطان والأكتاف "ومتشعبطو" المراكز والنهازون والصيادون "والحبالون" لا يستغنون عن "الحبال". ولكل حبله وحيله، ولكل صيده؛ فصائد يصيد "أرنب" أو "منصب" والغواصون في الأعماق لا يستغنون عن الحبال، و"الملغْوِصون" لا يستغنون عن "الحبال".
وقديماً قال أحد الخلفاء الأمويين يصف الناس وبعض الانتهازيين: "كلهم يمشي رويد، كلهم طالب صيد، غير عمرو بن عبيد".
ب‌- لعبة شد الحبل.
ينقسم الناس فيها فريقان، ويختصمون على "السمين"، لأنه يثقّل الفريق. وتوضع علامات، فإذا جر فريق فريقاً حتى تخطى الخط المخطوط على الأرض عد الجارّ هو الفريق الفائز والمجرور الفريق الخاسر. وكثيراً ما يكون بين الحكومات والشعوب مثل لعبة شد الحبل أو عض الأصابع كما يقولون.
وقديماً ضرب المثل بشعرة معاوية التي لا تنقطع بينه وبين الناس، فإذا أرخى الناس، شد الشعرة، وإذا شد الناس أرخاها. هذا غير شد الشعر من الضيق من الأسعار أو غيرها، وشد الشعر وقلع الأظافر لنزع الاعترافات والأسرار.. هذا شيء وهذا شيء.
4- الحرب خدعة والسياسة "أخدع"!
لئن كانت الحرب خدعة، وهي كذلك، فإن السياسة أدهى وأمر "وأحيل" وأخدع. وتجربتنا معها مرة علقم؛ فكم أنجز اليهود فينا أهدافهم بحيل السياسة وألاعيبها، بدءاً من وعد بلفور المشهور المشؤوم، ومروراً بحرب 48 التي انتهت بمفاوضات رودس التي حقق فيها اليهود مغانم من أرضنا ومكاسب ما كانوا حصلوها في الحرب.
وما الحرب إلا أداة للسياسة في الأصل، فالأصل ألأم من الفرع. وفي حرب 2006 لم يحقق اليهود غلبة لكنهم استعانوا بالأمم المتحدة، فصدر قرارها بوجود قوات فصل دولية، فبدل أن تحرس "إسرائيل" حدودها بات العالم كله يحرسها.
وفي حرب 2009 لم يحقق اليهود بغيتهم، فقاموا بالسياسة لينجزوا ما تخلف من أهدافهم، فقامت اتفاقية بين أمريكا و"إسرائيل"، وجرى حصار غزة الذي أسهم فيه نظام مبارك والجدار الفولاذي الذي ظل ينفيه وهو واقع قائم كلف مصر قرابة 400 مليون دولار. باختصار السياسة فن الدهاء والاحتيال والالتواء والاحتواء، وكيد الأعداء يعاونهم جيش العملاء، والله يحمينا!
ومن أحابيل السياسة أن الاحتلال أو الاستعمار أو الأنظمة الوارثة له، تنشئ طبقة مستفيدة من رجال الأعمال المزودين للاحتلال بالكثير من الخدمات. وقد صنع هؤلاء ثروات، وقد سألني أحدهم فقال: لقد كسبت أربعة ملايين دولار في صفقة تصدير شاحنات لقوات الاحتلال في العراق، وأنتظر صفقة ستوفر لي ثمانية ملايين، فما حكم ذلك؟ فقلت: أمريكا صانعة الشاحنات، وأم الرأسمالية تحتاج لأمثالك لتصدر لها؟ إنها تريد إنشاء طبقة مرتبطة مصالحها بمصالح الاحتلال. ولو قلت لك: إنك مشارك في قتل شعب العراق وإن عملك حرام فهل كنت منتهياً؟ وكل الناس يعلم توريط رموز السلطة في توريد الإسمنت والحديد لبناء جدار الفصل العنصري. والدهاليز والأحابيل والحيل والخدع والابتكارات لا تتوقف ولا تنتهي!
5-التوظيف الفني للحبال.
الرسم التشكيلي أحد أنواع الفنون المهمة، كانت أروع وأفضل، فصارت الآن أشيع وأنشر. كانت ترسم بموهبة فصارت ترسم بتقنية. واللوحات العالمية قد يصل سعر اللوحة إلى ثمانين مليوناً من الأخضر. ولوحة زهرة الخشخاش التي سرقت من المتحف المصري زمن فاروق حسني وحسني مبارك تساوي أقل بقليل من ستين مليوناً من الأخضر إياه. وكثير من اللوحات تسرق لتزور، ثم تعاد النسخة المزورة. وليس كل هذا من موضوعنا، لكن من موضوعنا لوحة شاعت وانتشرت قبل سنوات، على بساطتها فنياً لكنها لمست أو لامست وتراً وطنياً، وشعوراً دينياً خفياً أو عميقاً قوياً.
أظن أنكم عرفتم ما أدندن حوله، إنها لوحة تمثل خليلي (كيف عرفت؟) وقد حمل على ظهره جزءاً من مدينة القدس فيه الأقصى وقبة الصخرة، وقد شمر قنبازه (أو ديمايته أو دامره أو ثوبه أو كبْره أو الروزا..) وقد لف ما حمل بحبل طويل ينتهي عند رأسه.
ولوحة شهيرة أخرى نشرت في عديد من الدوريات الخليجية وغير الخليجية واحتلت أغلفة.. لفنان كويتي -على ما أظن- وعنوانها "الحرية" تمثل شخصاً مقيداً بشكل معقد جداً من أجزاء متعددة من جسده وهو يحاول أن ينفلت وأن ينطلق.
6- ثلاثة أيام في جهنم
هذا عنوان مقالة للكاتب "فيصل الكاملي" نشرته "البيان" عدد (292) ذو الحجة 32 وألخص بعض ما جاء فيه، وأركز على ما يهمنا من موضوع "الحبال"، قال: "من بين المعتقدات النصرانية الضاربة بجذورها في الوثنية، زعم الكنيسة أنه لما تراكمت خطايا بني آدم التي ورثوها عن أبيهم نتيجة أكله من الشجرة، صار لزاماً أن توجد "أضحية" فريدة تكون كفارة عن خطايا البشر، فكان موت يسوع المسيح على الصليب. لكن بعد موته نزل إلى جهنم، وحرر المأسورين فيها، وقهر الموت، وقام في اليوم الثالث. هذا الموروث الوثني لا يختلف في جوهره عن عقائد الفراعنة والبابليين ممن آمنوا بأن "بعلاً" أو "حورس" أو "أدونيس"، نزل إلى العالم السفلي لخلاص البشر.
وعند دراسة نصوص العهدين يتبين أن نزول يسوع إلى جهنم لم يكن نزول طائع مريد، بل كان نزول مكره، فقد قيد بالحبال في باطن جهنم وعانى معاناة المجرمين، كما حصل لبعل وغيره من آلهة الوثنيين، ثم أقامه الرب من الأموات، ناقضاً أوجاع الموت. ثم عقب الكاتب على عبارة: "ناقضاً أوجاع الموت" أنها ترجمة خاطئة لاعتمادها على ترجمة يونانية غير دقيقة. أما الأصل السرياني فيخبرنا أن الرب الذي أقامه "شراحبليه د-شيئول" أي حل عنه حبال شيئول (جهنم). ف"حبلي" هنا تعني حبال وليس أوجاع. يشهد لصحة ذلك ما ورد في النص العبري من المزمور 18:3 "حبلي شيئول سبابوني" ومعناه: "حبال شيئول (جهنم) التفّت حولي". يؤيده تتمة الفقرة: "وأشراك (جمع شَرَك) الموت، انتشبت بي، وهو ما ذهبت إليه أغلب الترجمات الإنجليزية. فنحن إذاً أمام تصوير وثني مقيت للمسيح عليه السلام، نازلاً إلى بطن جهنم مكرهاً، ليعاني ما عاناه آلهة البابليين والفراعنة والإغريق من شدة الغم وشدة الوثاق. ثم يحل وثاقه ليقوم في اليوم الثالث" أ.ه. باختصار.
ونحمد الله على ما أكرمنا من عقيدة ليس فيها كل هذا الخبط والغثاء. ( السبيل )