حكومة عدنان سكرية .

تبدأ السوق بمحلات الخضار، وهي عبارة عن دكاكين متلاصقة على جانبي الشارع الموصل لمسجد اربد الكبير، وساحته الصغيرة المحاطة بمحال الجزارين الذين اعتادوا الذبح أمامها، لتختلط رائحة الدم واللحوم مع الخضار وما يباع من غير ذلك، ثم مع أصوات الباعة والمتسوقين والدواب التي يحضرها البعض للركوب والتحميل، وغيرها لعاملين بالعتالة، لتؤكد لمن في المكان انه في السوق تماما.
تنتهي السوق عند الساحة، وبعدها يذهب الشارع بعابريه إلى دوار بور سعيد، وقد اكتسب الاسم من مكتب التاكسي الأقدم في المدينة العائد لفالح الدرزي، ومنه إلى شارع السينما، نسبة إلى سينما الزهراء فيه، وقد كان الأشهر على الإطلاق في كل الشمال، وهو لكبار تجار الأقمشة والملابس والأحذية.
من بداية السوق وحتى الدوار تتفرع جنوبا شوارع عدة تنتهي إلى شارع فلسطين الأطول في المدينة، وفيها المخازن لتجار المواد الغذائية على مختلف أنواعها من سمانة وبقالة وشتى أنواع الحبوب والسكر والأرز. أما شمالا فشارع فرعي واحد يؤدي إلى سوق الصاغة والفرواتية، وفي الوسط منه خان حدو، وفوق هذا مكتبة البلدية.
تبدأ الحركة مع ساعات الفجر الأولى من الصلاة بالمسجد مع إمامه الشيخ بركات، المعتمد الوحيد حتى نهاية ستينيات القرن الماضي لعقود الزواج في اربد. تفتح الأبواب، ويبدأ البيع والشراء إلى أن ينتهي مع صوت أذان العشاء، فتغلق عن بكرة أبيها دفعة واحدة.
هي سوق اربد التي ترسم مع بناء المسجد الكبير، وأصبحت على ما هي عليه بداية أربعينيات القرن الماضي تقريبا، وقد شكل حياة الناس الاقتصادية وتحكم بها إلى حد كبير. أما أكثر ما كان يميزه، فهو دكان عدنان سكرية لبيع الكتب، وتطور إلى مكتبة قرطاسية وصحف ومجلات أيضا.
تميز عدنان سكرية عن تجار السوق، يرتدي بنطالا وقميصا وليس سروالا وقمبازا، أو دشداشة كما هو حال أكثر التجار وروادهم، يضع نظارة بإطار اسود عريض يطلق عليها تندرا كعب فنجان، قصير القامة نحيف البنية، وشعر اسود يسرحه للخلف، وصوت بنبرة حادة، لا يخلو من رشاقة تشاهد وهو يتحرك وعندما يغلق ويفتح المكتبة.
اعتاد عدد من تلاميذ المدينة لاستئجار الكتب والمجلات بدل شرائها، كانوا مقابل خمسة فلوس (تعريفة) يتمكنون من قراءة مجلة جلوسا على درجات المحل، واشهرها آنذاك سوبرمان، البرق والطواط، ميكي ولولو الصغيرة وصديقها طبوش.
وللأكبر سنا: ريما وسمر والشبكة والموعد والصياد وغيرها بقرش واحد، ثم كتب أرسين لوبين والعميل السري، وصولا إلى سن المترك الذي هو الثالث إعدادي أو التاسع حاليا، فعنده انهينا طه حسين والعقاد والحكيم ومحفوظ وعبدالقدوس بما توفر من كتب ووقت.
ولطول العلاقة مع سكرية كان يسمح بالاستئجار المنزلي ولأكثر من يوم بالنسبة للكتب. من عند سكرية كانت بدايات العقل لأكثر من جيل وقد انقلب الحال وما عاد مثله.
سوق إربد الآن لا تختلف عما كان عليه طوال كل العقود، والشيء الوحيد الذي يغيب عنها هو دكان عدنان سكرية الذي ما عاد مكتبة، وتحول لبيع الخضار. والأمر قد يفسر واقع الثقافة الضحلة، والسياسات الحكومية التي لا تختلف عن سياسة الحسبة، وأسواق الخضار، والدلالة فيها الذين يبدعون لرفع الأسعار.
( السبيل )