مؤتمر لأجلك

أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى. فقد علا شأنك أيها الشيء العظيم، ولم تعد نجماً لأحاديثنا، وحبراً سهلاً لمقالاتنا وتحليلاتنا، وحلوى لتجمعاتنا وسهراتنا فحسب. بل صرت علكة سائغة لكل فم ولسان، ولأجلك تقام المباني العالية، وتعقد المؤتمرات المحلية، والعربية، والإقليمية.
فهل أنت كائن حي، بلحم وشحم وأحاسيس ايها الشيء العظيم؟!، أو أنك من الفقاريات الثدية؟!، أو من الرخويات، أو المفصليات المدرعة؟!، أو أنك برمائي محرشف؟!، أو كائن مجوقل (محمول جواً)؟!.
أو أنك أيها الفساد كائن هلامي كالأميبا، تغير شكلك باستمرار وعند كل بادرة مقاومة، فالرأس قد يغدو ذنباً، والذراع قدماً بغمضة عين؟!، أو أنك من ذوات الدم الحار، لا يدخل في نوم أو سبات، أو أنك كائن حربائي مجنح، يتأقلم مع ألوان الأرضيات، ويطير عبر كل الأجواء؟!. فما أصعب أن نعرف المُعرف، أو أن يحتاج النهار إلى دليل!.
عندما خصصوا يوماً للحب يجتاح كرة الأرض بأحمره ووروده البلاستيكية المعطرة، قلنا: يحق لهم أن يحتفلوا بكل الأشياء الآيلة للانقراض، كي تبقى على قيد الذاكرة. فيحق لهم أن يخصصوا يوماً للصدق، وللسلام الذي تمرمغ في تراب المفاوضات، ويحق لهم أن يخصصوا يوماً للحمام المسكين، الذي أتعبه غصن الزيتون الثقيل.
وحينما خصصوا مؤتمرا دولياً لمكافحة الفساد ومحاربته ومصارعته ورشه بكل المبيدات الحشرية، وضعت يدي على قلبي، فالظاهر أنهم لم ينفحوه يوماً خوفاً عليه من شبح الانقراض، لا سمح الله. بل لأن السيل بلغ الزبى، وتغلغل الفساد كدودة في أحشاء العالم، وسيسقط كرة الأرض كتفاحة منخورة.
أول أمس افتتاح رئيس الوزراء المؤتمر السنوي للشبكة العربية لتعزيز النزاهة ومكافحة الفساد تحت شعار (دور سلطات العدالة) قائلاً: إن مكافحة الفساد ومحاربة الفاسدين واجتثاثهم وتقديمهم الى العدالة جزء مهم من عملية الاصلاح الشاملة في الأردن.
بعيدا عن إنشاء المؤتمرات وشعاراتها: فنحن نريد أن نقلي بيضاً، أو أن نحط على النار، كما يقولون، نريد أن نرى الفساد مضبوعاً ومقموعاً، ونريد أن ننهي ملفات الفساد التي فتحت ولم تكتمل، ولا نريد أن نحس بأن فتح بعض الملفات لم يكن لذر الرماد في العيون، ونريد أن يشعر الواحد من أن محاسبة الفساد لم تحتكم للمزاجية والانتقائية. ونريد أن نسترد ما نهبه الفاسدون، هذا يهمنا أكثر.
فلا النواياالحسنة، ولا النقاشات وأوراق عمل المؤتمرات، والندوات والمحاضرات. ولا حتى التصريحات النارية، التي تنوي أن تجفف منابع الفساد، تفيد شيئاً دون مرافقة الإرادة الحقيقية للمكافحة والمطاردة والمتابعة، بطول نفس، وصبر، وجرأة. فنحن أمام كائن مختلف، كائن حربائي مجنح. ( الدستور )