لا استقرار بانتخابات من دون مصالحة في ليبيا

"هل ستدخل ليبيا التاريخ كفشل آخر للتدخل الغربي في القرن الحادي والعشرين بعد أفغانستان والعراق؟" هكذا تساءل مراسل صحيفة الغارديان البريطانية، لوك هاردينغ، يوم الجمعة الماضي في سياق تغطيته لانتخابات المؤتمر الوطني العام في السابع من الشهر الجاري، ضمن جولة خطط فيها للاطلاع على موقف من وصفهم بـــ"الخاسرين" من حرب حلف الناتو على ليبيا.
وتهلل حكومات الدول الغربية التي قادت الحرب على ليبيا لانتخابات المؤتمر الوطني الليبي باعتبارها إنجازا "ديمقراطيا" سوف يقود ليبيا إلى الاستقرار. لكن ذلك سوف يعتمد على النموذج الذي يختاره عرب ليبيا بعد الحرب لإنهاء الصراع الأهلي الناجم عنها.
وكما يبدو الآن، فإن "المنتصرين" يقادون نحو اختيار نموذج الاحتلال الأمريكي في العراق في "اجتثاث" الطرف الآخر "الخاسر" في الحرب، وليس نموذج "لجنة الحقيقة والمصالحة" التي أنشأها شعب جنوب إفريقيا بعد انتصاره على نظام الفصل العنصري، حيث يجد "الخاسرون البيض" في الصراع أنفسهم اليوم "منتصرين" أيضا في الوضع الجديد.
في يوم انتخابات "المؤتمر الوطني" الليبي، نشر عبد الأمير المجر مقالا جاء فيه أن "القوى الدولية التي اتفقت على إسقاط النظام "في ليبيا" لم تضع خطة لما بعد النظام، وكأن هدفها كان إنهاء الدولة لا إسقاط النظام .. مثلما تجلى لنا من قبل، كعراقيين، عندما وجدنا أنفسنا أمام فوضى عارمة بعد الاحتلال".
فبعد حوالي عشر سنوات من تجربة نموذج "الاجتثاث" العراقي يثبت الآن أن الانتخابات التي قامت على إقصاء الطرف الآخر و"اجتثاثه" لم تكن ديمقراطية ولم تقُد إلى الديمقراطية ولم تحقق السلم الأهلي والاستقرار والتنمية ولا أعادت بناء الدولة ولا نجحت حتى في إقامة سلطة مركزية تحافظ على وحدة الأراضي الاقليمية الوطنية، ولا أنهت المليشيات الطائفية والعرقية المسلحة ولا نزعت سلاحها، لتتحول الانتخابات إلى طريقة متحضرة في ظاهرها للمحاصصة الطائفية والحزبية التي يحسمها في الواقع وزن سلاح مليشيات أصحابها على الأرض. ولم يكن مفاجئا أو مستغربا لكل ذلك خلق بيئة موضوعية لاستفحال الفساد ونهب الثروات الوطنية وفتح الأبواب على مصاريعها أمام نفوذ كل القوى الأجنبية الطامعة. ويبدو هذا هو النموذج الذي تتجه نحوه ليبيا اليوم.
فدور الانتخابات الليبية يبدو غير مختلف عن دور الانتخابات العراقية، فهي تبدو انتخابات مليشيات قائمة على اساس الإقصاء والاجتثاث هدفها المحاصصة في اقتسام مناصب حكم لا يزال دون قوانين ودون مؤسسات، وسط غياب كامل للدولة، وسيطرة كاملة للمليشيات المسلحة التي "باشرت المسؤولية الرئيسية عن القانون والنظام .. خارج أي إطار عمل قانوني" (تقرير لخدمة أبحاث الكونجرس الأمريكي في 1/12/2011)، والتي "تعمل بحصانة" ويبلغ عديدها (200000) حسب تقرير للنيويورك تايمز في 12 آذار الماضي. وقال تقرير لمنظمة العفو الدولية الخميس الماضي إن "مئات من المليشيات المختلفة .. تعمل فوق القانون".
وفي مواجهة قوة المليشيات، لجأ المجلس الانتقالي وحكومته إلى الاستعانة بجماعات منها أطلق عليها اسم "درع ليبيا" أو "الدرع الوطنية" لتقوم بدور في ضبط الاقتتال القبلي (الكفرة في الجنوب مثالا) أو بدور حرس حدود كما حدث على أجزاء من الحدود المشتركة مع تونس كمثال آخر.
لقد فشلت كل محاولات حل المليشيات ونزع سلاحها حتى الآن. وإذا كان غياب الدولة وضعف السلطة المركزية المنبثقة عن "تغيير النظام" سببا غنيا عن البيان لهذا الفشل فإن النيويورك تايمز في تقريرها المشار إليه أعلاه تورد سببا ثانيا بتساؤلها: "لماذا ستحل المليشيات نفسها كي يتمكن أعضاؤها من الالتحاق بالقوات المسلحة المستبعدة من المشاركة في الانتخابات (بموجب قانون الانتخابات) بينما يستطيعون الانتخاب؟" لذلك تحولت المليشيات إلى أحزاب بلا برامج سياسية وتحول قادتها إلى مرشحين سياسيين، على الطريقة العراقية تماما.
ويتضح سبب ثالث للفشل في حل المليشيات في دلالات معركة السيطرة على مطار طرابلس الدولي عندما حاول خليفة حفتر بصفته قائد "الجيش الليبي الجديد" السيطرة على المطار في كانون الأول الماضي ومنعه من ذلك عبد الحكيم بلحاج ومليشياته لاتهام الثاني للأول بأنه رجل المخابرات المركزية الأمريكية مما قاد إلى إبعاد حفتر واستقالة رئيس الوزراء الانتقالي الذي كان يدعمه محمود جبريل الذي اتهم بلحاج علنا بكونه أحد رموز "الإسلام السياسي" الممولة من قطر. وبلحاج وجبريل يتزعمان اليوم حزبين شاركا في الانتخابات الأخيرة دون أن تسقط الاتهامات المتبادلة بين الرجلين. وعلى الأرجح أن مشهد الصراعات بين من أوصلتهم طائرات الغزو الأجنبي إلى الحكم في العراق سوف يتكرر في ليبيا.
وبانتظار الانتخابات البرلمانية الليبية عام 2013، تبدو أهمية المصالحة كشرط مسبق لأي انتخابات تقود فعلا إلى ديمقراطية واستقرار في ليبيا كون انتخابات السابع من تموز الجاري لم تكن انتخابات برلمانية لهيئة تشريعية عادية بل كانت انتخابات "مؤتمر وطني" ولايته لسنة واحدة ومن المفترض أن يكون ممثلا لكل الشعب الليبي لأنه خلال ولايته الانتقالية سوف يؤسس لدستور يحدد ملامح ليبيا لفترة طويلة مقبلة. ولأنه مؤتمر يقوم على إقصاء الآخر واجتثاثه فإن نتائجه لن تختلف كثيرا على الأرجح عن نتائج المؤتمر الذي أقر الدستور الذي وضعه الاحتلال الأمريكي للعراق.
لقد كان رئيس "المجلس الوطني الانتقالي" الليبي مصطفى عبد الجليل، المفترض أن تكون ولايته ومجلسه قد انتهت بانتخابات يوم السبت الماضي، مدركا لمخاطر التأسيس لليبيا جديدة على قاعدة الإقصاء والاجتثاث، لذلك خاطر بانتداب علي الصلابي للاجتماع في 27 أيار الماضي بالقاهرة مع أحمد قذاف الدم كجزء من مبادرة لـــ"المصالحة الوطنية"، لكن المجلس الانتقالي الذي يرأسه تنصّل من هذه المبادرة واعتبرها "شخصية"، مع أن المصالحة الوطنية "هي العامل الأهم" لضمان الاستقرار والتنمية والرفاه في ليبيا كما قال أمين عام الأمم المتحدة بان كي - مون في الثلاثين من كانون الثاني الماضي.
ويظل السؤال الأهم بلا جواب عما إذا كانت المصالحة ممكنة بين من مكنهم الناتو وبين من دمرهم في ليبيا . ( العرب اليوم )