ضحيتا الانقسام المذهبي

الانقسام المذهبي الذي يتهدد الإقليم برمته، طولاً وعرضاً، ألحق ضرراً فادحاً، قد يصل (إن لم يكن قد وصل فعلاً) إلى مستوى التهديد المباشر، لأنبل ظاهرتين شهدتهما المنطقة خلال العقد الجاري: ظاهرة المقاومة الباسلة التي أبداها حزب الله في مواجهة عدوان تموز/ آب الذي تُصادف هذه الأيام، ذكراها السنوية السادسة... وظاهرة «ربيع الديمقراطية» الذي أورق في عدد من الدول والمجتمعات العربية، حيث تتسلل «الثورة المضادة» إلى عمق حراكات الشوارع العربية وتتهدد بحرفها عن قضية الحرية والكرامة والتنمية والتعددية والديمقراطية، ودائما تحت ستار كثيف من دخان الشعارات المذهبية والطائفية.
قد يقال الكثير (وقد قيل) في مثالب تجربة حزب الله ونواقصها، كأن يجري التذكير بالهوية المذهبية شبه الخالصة للحزب، أو يؤتى الحزب من بوابة تحالفاته العربية والدولية، أو يؤخذ عليه تدخله أحياناً في «زواريب» السياسة المحلية اللبنانية، والأهم من كل هذا وذاك، ما يسجل عليه من إغفاله لانتفاضة الشعب السوري، ومن قبل مواقفه التي عانت التباساً ظاهراً ومقلقاً من ظاهرة المقاومة العراقية على التباساتها أيضاً.
لكن الأمر الذي لا جدال فيه ولا مراء، هو أن الحزب في تجربة تموز وما قبلها، قدم صورة للمقاومة كما ينبغي أن تكون، وقف أمام آلة العدوان الإسرائيلية وألحق هزيمة بـ»الجيش الذي لا يقهر»، الذي لم يجد من وسيلة لتعويضها أو للتقليل من أثرها على صورته الردعية، سوى بقصف بربري يرقى إلى مستوى جرائم الحرب، للأهداف المدنية والبنى التحتية اللبنانية، وها هي إسرائيل تعيش منذ تلك الواقعة، في قلب تداعيات الحرب، تقرأ دروسها وعبرها، في مسعى منها للإجابة على سؤال: كيف أمكن لحزب صغير أن يصد جحافل الغزو الإسرائيلي لثلاثة وثلاثين يوماً، وهو ما لم تقو عليه، جيوش جرارة وأسلحة مكدسة ونياشين لم يعد متسع للمزيد منها فوق صدور الجنرالات وحول أعناقهم.
ولم يعد خافياً على أحد، أن قراراً إقليمياً ودولياً، قد صدر منذ ذلك التاريخ، بتشويه الظاهرة وتقزيمها، بل ونزع الشرعية عن سلاحها، وتحويله إلى سلاح قاتل في الطرق والحارات، شأنه في ذلك شأن أي سلاح ميليشاوي، ولقد كان «الانقسام المذهبي» البوابة الأمثل لتلك الحملة المضرية التي لم تتوقف حتى يومنا هذا، فليس من مصلحة أطراف هذه الحملة وداعميهم الإقليميين والدوليين نزع الأسطورة التي غلّفت قدرات «الجيش الذي لا يقهر» وكانت السبب في شق مسار انهزامي عربي، لعل «المباركية» في مصر، ومن قبله «الساداتية»، عنوانه الأبرز، ليس من مصلحة هذه الأطراف أن تتغلغل القناعة في أوساط الشعوب العربية، بأن هزيمة إسرائيل أمر ممكن.
اليوم، يجري استخدام أدوات الانقسام الطائفي والمذهبي للانقضاض على صحوة العرب وربيعهم، وضمان السيطرة على مخرجاته، وتحويله إلى كابوس مُستدام من الاقتتال الأهلي المهدد لوحدة البلاد والعباد، في مصر يُلقى بالمال بلا حساب، لدعم تيارات مذهبية، في مواجهة قوى الثورة من علمانية وليبرالية ويسارية وتقدمية وشبابية، وكذا الحال في تونس، ومن قبل تتحول كتائب السلفية الجهادية في ليبيا إلى مهوى أفئدة «المتبرعين» و»المجاهدين» ورعاتهم، وفي سوريا يجري تكرار المشهد، وباستخدام أقذع ما في قاموس «المذهبية» البغيض من شعارات ومفردات، لا صلة لها بأهداف الثورة ولا بتطلعات الشعب السوري.
يتهدد الانقسام المذهبي عراق ما بعد صدام حسين، ولبنان ما بعد الدوحة وسوريا الأسد وما بعده، ونذره تمتد إلى ساحات ومناطق أخرى، جالبة معها كل يوم، زوابع الريح السموم، لكأنه يراد للربيع العربي أن يسلك طريقاً واحداً، وأن ينتهي إلى مآلات بعينها، وبصورة تتصدر معها قضيتا «المقاومة» و»التحوّل الديمقراطي المدني» صدارة قائمة ضحايا الانقسام المذهبي والطائفي الأكثر خطوة في تاريخ المنطقة الحديث... الأولى دفعت الثمن مقدماً وبالجملة، فيما الثانية تدفعه اليوم بالتقسيط الدامي وغير المريح، و»الحساب» ما زال مفتوحاً على المسارين بانتظار أن تضع حروب الطوائف والمذاهب أوزارها. ( الدستور )