ملفان على الطاولة .. والثالث لا يزال غائبا!

الملفان اللذان يستحوذان الآن على الاهتمام الرسمي هما: الحراكات الشعبية التي تتصاعد في الشارع، وموقف الحركة الاسلامية من الانتخابات القادمة، على صعيد الملف الاول ثمة قراءة رسمية تشير الى ان هذه الحراكات ما تزال تحت “السيطرة” وان بقاءها في الشارع مطلوب في المرحلة الراهنة، وامكانية “اختراقها” ممكنة، كما ان التعامل مع “سقوفها” العالية بحزم ما زال مؤجلا ومعلقا بانتهاء تنفيذ “مشروع” الانتخابات، اما الملف الثاني فهو اكثر اهمية، اولا لان الاخوان يشكلون “زخم” الاحتجاجات في الشارع، وبالتالي فان سحبهم منه سيضعف هذه الحراكات، وثانيا لان التعامل مع الجماعة – مهما ارتفعت سقوف مطالبها- يخضع لمنطق الحسابات السياسية، وهذا يحتاج الى “مقاربات” يمكن ان تفضي الى تفاهمات ما بين الدولة والحركة، وثالثا لان مقاطعة الاخوان للانتخابات –ان استمرت- يمكن التعامل معها، كما حصل في السنوات الماضية، سواء بطرح البديل الاسلامي الجاهز او عزلهم سياسيا، او بحصر مقاطعتهم فيهم فقط بحيث لا يسمح لهم بادارة “المقاطعة” وتحشيد الشارع معها.
هذه المقاربة تعتمد –بالطبع- منطق “التهوين” من الازمة السياسية، وتقوم على اساس “تصور” لا يرى الا صورتين: صورة الاخوان وصورة الحراكات، وفي الاطار “فكرة” امكانية “السيطرة” على المشهد وادارته بشكل ناجح، وهذا صحيح من زاوية لكن حين تدقق فيما حدث منذ عام ونصف على الاقل داخل مجتمعنا تكتشف ان ثمة صورا اخرى اخطر يفترض ان ننتبه اليها اذا كنا حريصين على الخروج من حدّة الاحتقان والاستقطابات التي تتصاعد يوميا.
من هذه الصور ما حدث في مجتمعنا من تحولات في الافكار والاتجاهات والمواقف، سواء تجاه الدولة او اتجاه “ملف”الاصلاح” ثم ما حدث من شعور “بالخيبة” لدى بعض الذين كانوا يراهنون على العقلانية، لا اتحدث –هنا- عن “الخيبة” بالاشخاص والمؤسسات فقط، وانما عن “خيبات” مركبة تجاه “المشروع الوطني” الذي كان يشكل بارقة الامل لدى الناس، فبينما كانت الاجيال فيما مضى تؤمن بفكرة “الوطنية” المرتبطة بالثوابت المعروفة، اصبحت اليوم تنظر لهذه الفكرة بشل آخر.. واعتقد ان هذا التحول يشكل نقطة هامة يفترض ان ننتبه اليها حين نناقش قضايا مثل الانتخابات او الولاءات او انعاش بعض الحواضن الاجتماعية كبديل للحواضن السياسية.
الذين يعتقدون ان قراءة المشهد من زاويتي: الحراكات والاخوان فقط هي الاهم في تجاوز الواقع الاردني مخطؤون تماما، فالمجتمع الاردني الآن ليس كما هو قبل عامين، و”الانكشاف” الذي حصل سواء بفعل “اصوات الشارع” او “الانفتاح الاعلامي” او “احداث الاقليم”، زلزل وعي الناس وفتح اعينهم وصدورهم على وقائع جديدة، وتطلعات وافكار واحلام لم تكن في حساباتهم سابقا، وبالتالي نحن امام مجتمع اردني جديد يحتاج الى رؤية سياسية تتناسب معه، وتجيب على تساؤلاته، وتجسّر المسافة بينه وبين “مطابخ القرار” التي ربما ما تزال تتعامل معه كما كانت قبل عشرين عاما.
اذا سمح لي القارىء العزيز سأقول بان مطالب المجتمع –دعك من الاخوان والحراكات- تتجاوز البحث عن “قانون انتخاب” عادل، او تعديلات دستورية تفضي لحكومة برلمانية، تتجاوزه نحو البحث عن مناخات جديدة من الحرية والكرامة والعدالة.. كيف؟ لا يوجد لدى هؤلاء الناس وصفة محددة ولكنهم يريدون ان يستعيدوا “حياتهم” الكريمة والمتواضعة والمستورة دون ان يشعروا بان كوابيس “السياسة” تطاردهم، ودون ان يتابعوا مسلسلات الفوضى الاجتماعية وحرائقها، ودون ان ينتابهم مزيد من القلق على امنهم واستقرارهم.
باختصار، ملف “الناس” وهمومهم واحتياجاتهم يفترض ان يكون حاضرا بقوة، فهؤلاء هم الذين يحددون بوصلة العافية للبلد، وهم الذين يحافظون عليه من اي عبث في النواميس الوطنية، وهم الطاقة السحرية التي يستمد منها الاخوان والحراكات وقود حركتهم مهما كانت عناوينها. ( الدستور )