تسميم الوَعْي!!

من لم يفاجأ بفتح ملف ياسر عرفات الصّحي واغتياله البطيء بالسم الاشعاعي بعد ثمانية أعوام من رحيله عليه أن يفاجأ الآن بسرعة اغلاق هذا الملف، فالنبأ الذي كان لبضعة أيام أشبه باللوغو عبر الفضائيات ووسائل الإعلام لم نعد نسمع به، وما قيل عن محاولة اخراج الجثمان لفحص ما تبقى منه أسدل عليه الستار، فما الحكاية؟ ومن هم الذين يتولون مثل هذا التوقيت المبرمج لفتح الملفات واغلاقها أو اعادة تأجيلها!
قدر تعلق الأمر بالراحل عرفات فإن التأجيل هو المرادف العلمي والاخلاقي والسياسي لإخفاء معالم الجريمة، وبالتالي اعتبارها كاملة، لأن ما تردد علمياً هو إنما تبقى من ذلك السم قد يتلاشى وبالتالي يتعذر الاثبات بأن الرجل مات مسموماً..
ما نود قوله ما بين المفاجأتين.. الفتح والإغلاق أو التأجيل، هو ان للراحل عرفات زوجة وابنة وأقارب اضافة الى من يعتبرونه قائدهم المغدور من شعبه، لكن المواطن العربي العادي من الذي سيحميه من تسمم الوعي، سواء أكان بإشعاع من ميديا نووية أو من أي مصور آخر واذا كان عرفات قد مات مسموماً بالجسد فإن هناك الملايين الآن ممن يحقنون علناً بالسم، لكنه سم لا أثر له على ملابسهم الخارجية أو الداخلية، بل هو في صميم العقل، بحيث يتعذر اثبات هذا التسمم بأحدث أدوات الكشف في العالم، لأنه بعكس السم الجسدي، يتكاثر ويزداد نفوذه بمرور الزمن، ولا يفقد خلال ثمانية أعوام أو عشرين ما تبقى منه.
تسميم الوعي ضحايا بالملايين، وهم بلا أسماء، لأنهم مجرد أرقام، وليست لديهم زوجات أو رفاق سلاح وسياسة كي ينشبوا القبور والملفات.
وضحايا هذا السم يتكاثرون لأنه من النوع المُعْدي، فمن يفقد رشده ويصدق كل ما يصدر اليه على مدار الساعة سينقل الفيروس الى من حوله، لأنه سيسخر من أية جملة سياسية مفيدة يسمعها، ويدفع ما تبقى من الناس على قيد الوعي كي يشربوا من نهر الجنون المسموم.
نعرف ان الزهايمر بمعناه الطبي أصبح ظاهرة يخشى منها من يتجاوزون الستين أو السبعين، لكن الزهايمر السياسي بدأ يهدد من هم في العشرين أو دونها، لأن الميديا التي تبنت الموعظة الجوبلزية الشهيرة من الكذب لن تملّ من تكرار ما تقول فمن لم يصدق حتى الآن عليه ان يتهيأ للتصديق بعد أسبوع أو شهر أو حتى عام.
ان حالة تسميم الوعي التي أصبحت وبائية وليس مجرد اصابات متفرقة لن تحظى بأي خبر عبر الفضائيات والارضيات ولن يتحرك الرأي العام بسبها أو من أجلها، فهي مجزرة عقلية ضحاياها بالملايين، لكن ما من قطرة دم تسيل، وهذا ما يضاعف اليأس من امكانية البرهنة عليها أو اثباتها قانونياً.
انهم يصنعون لنا من خلال مختبرات أعقد من أي مفاعل نووي ما نفكر به، لهذا أصابنا الدّوار، وما تفسير لهذا الدوران المحموم غير ذلك! ( الدستور )