ماذا يجري في سوريا؟

الأنباء الواردة من سوريا تطرح بقوة أسئلة: ما الذي يجري في سوريا؟...هل فقد النظام سيطرته على أركانه؟...من الذي يدير البلاد؟ من الذي يحكم سوريا؟..هل أزفت ساعة الحقيقة والاستحقاق؟...هل نحن على وشك استقبال مفاجآت جديدة، وربما من عيار أثقل؟
رئيس الوزراء السوري المُعيّن حديثاً يعلن انشقاقه عن “النظام المجرم” والتحاقه بثورة الشعب السوري، فيما الناطق باسمه يقول إن “التحضير للانشقاق والانتقال إلى مكان آمن بالتنسيق مع الجيش السوري الحر” بدأ قبل عدة أشهر، أي قبل أن يؤدي حجاب اليمين الدستورية أمام الأسد رئيساً للحكومة...هل يعقل أن “التقية” بلغت بالرجل هذا المبلغ، أم أن المبالغات التي درج عليها الناطقون باسم الثورة تريد إحاطة حدث مهم بذاته، كانشقاق رئيس الورزاء، بهالة “بوليسية” شديدة التعقيد، تجعل منه حدثاً استثنائياً ؟!
والمفارقة أن سوريا تأتي برئيس جديد للحكومة ينتهي اسمه بـ”غلاونجي”، لكأنه كُتِبَ على السوريين، أن يظلّوا مطاردين بشبح الغلاء وارتفاع الأسعار وشح المواد واشتداد الضائقة الاقتصادية، فجيء لهم برئيس حكومة يذكرهم في كل نشرة أخبار وعلى امتداد الساعة بغول الغلاء الذي يلتهمهم، أللهم إلا إذا قرر الأخير الانشقاق بدوره، أو ربما يكون شرع فعلاً في إنجاز ترتيبات انشقاقه مع “الجيش الحر”، عندها نسأل الله أن يأتي برئيس حكومة له من اسمه نصيب طيب على الشعب السوري المنكوب...شر البلية ما يضحك.
معركة حلب التي قيل فيها ما قيل في “مصيريتها” و”تاريخيتها”، تُجمع الأطراف على أنها لم تبدأ بعد...الجيش النظامي توّعد بتقديم “الطبق الرئيس” قريباً لـ”العصابات المسلحة”...ما يعني أن كل ما جرى تقديمه والتهامه حتى الآن يندرج في عداد المقبلات والمُشهيات، مع أن نصف حلب تحوّلت إلى خرائب وأنقاض...المعركة الكبرى لم تبدأ بعد، مع أن التحضيرات والحشود قد استكملت، ماذا ينتظر “الشيف” حتى يخرج علينا بـالطبق المفاجأة؟...لماذا التردد في اتخاذ القرار؟...هل هي الحسابات الدولية، وما جديدها إن كانت السبب، أم أن الأمور في حلب، كما دمشق، باتت أيضاً خارج السيطرة والتغطية.
قبل حلب كان الإعلام الرسمي يعلن “تطهير” دمشق من “فلول العصابات” ويبث التقارير تباعاً عن عودة الحياة الطبيعية إلى معظم أحيائها...منذ ذاك التاريخ وقعت العشرات من المعارك وسقط المئات من الضحايا، وانضمت مناطق جديدة إلى قائمة المناطق التي دفعت أبهظ الأثمان (اليرموك والتضامن على سبيل المثال)...لا شيء عاد إلى طبيعته المعتادة في دمشق...دمشق بل وسوريا جميعها، باتت كالخرقة البالية، ما أن “تقطبها” من هنا حتى “تفرط” من هناك، ألا تذكرون حمص ودير الزور وحماة ودرعا؟..كم مرة “حسم” النظام الوضع و”طهّر” تلك المدن؟ يبدو أن هذه العمليات لن تنتهي إلى ماشاء الله.
أمس، وتزامناً مع انشاق رئيس الحكومة وعدد من وزرائه، كانت مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الحصينة في قلب دمشق، في ساحة الأمويين، تحت مرأى ونظر قصر الشعب، تتعرض لـ”عملية إرهابية جبانة”...العملية وقعت في قلب المبنى، في الطبقة الثالثة منه زرعت العبوة الناسفة...أصابت من أصابت وخربت ما خربت في واحد من أكثر المباني تحصيناً في سوريا...وهي إذ تأتي بعد تفجير مقر “الإخبارية السورية” واستهداف مقر التلفزيون في حلب، ومن قبله تدمير مكتب الأمن القومي في حي الروضة الحصين، تدلل أنه لا “مأمن” في سوريا...لا مكان لا تستطيع يد “العصابات الإرهابية” أن تطاله...فمن هو بحاجة أكثر للملاذات الآمنة بعد اليوم: النظام أم المعارضة؟.
أما عن الانشقاقات فحدّث ولا حرج...الأعداد في تزايد كماً ونوعاً...رتب ومرتبات رفيعة تغادر إلى الأردن وتركيا...لا أحد يذهب إلى لبنان سوى الفلسطينيين “المعتّرين” الذين بلغوا الآف هناك وقرروا الالتحاق بمخيمات أشقائهم المكتظة في بيروت والبقاع وشمال لبنان...آخر أنباء الانشقاقات تلك التي تحدثت عن هرب أول رائد فضاء سوري الطيار محمد أحمد فارس إلى تركيا (بالمناسبة هو أول وآخر رائد فضاء سوري)، وسط حفاوة من قبل معارضي النظام باحتمالات “التحاق الصناعات الفضائية السورية” بالثورة ؟!.
لا نعرف ماذا يجري في سوريا، لكن وتائر تفكك النظام تتسارع، خصوصاً مكونه السني، فالنظام وإن غلبت على تكوين مفاصله الأساسية هوية مذهبية معينة، إلا أنه في الحقيقة يضم عناصر ومجاميع من مختلف الطوائف...يبدو أن عمليات الفرز الطائفي في سوريا والمنطقة تجعل حياة ممثلي “المكوّن السني” في النظام صعبة للغاية.
لقد قلنا بعد عملية حي الروضة ومقتل القادة الأمنيين الأربعة، أنها ستسرع وتائر الانشقاقات...هذا ما يحصل الآن، والمرجح أن يتواصل بوتائر أعلى وأشد...لكن ذلك لا يعني أن الحرب في سوريا وعليها قد شارفت على أن تضع أوزارها...وانشقاق رئيس حكومة في سوريا له دلالة نفسية ومعنوية فقط، فالمنصب بمجمله “مهمّش” تماماً، حتى أنك تحتاج للعودة إلى “غوغول” للتدقيق في اسم رئيس الحكومة هناك، وهذا ما فعلته اليوم، لكنني وغيري نحفظ عن ظهر قلب، أسماء من يشغلون المواقع الأولى في “حلقة صنع القرار السياسي والأمني في دمشق”...كان الله في عون السوريين وعوننا.
( الدستور )