لكي لا نغرق في منطق «المظلومية» والمحاصصة

الذين «ورطونا» في الخصخصة يريدون اليوم ان يأخذونا الى الحصحصة، واذا كنا –ولا نزال- ندفع ثمن الاولى فان مجرد «الدعوة» الى اعتماد منطق «الحصص» في ترتيب اولوياتنا وحل مشكلاتنا سيحملنا «ثمنا» لا طاقة لبلدنا به.. ولا خيار لنا امامه سوى الرفض. نخطىء –كثيرا- حين نفزع باسم الدفاع عن حقوقنا ومطالبنا الى الانحياز لمبدأ «المظلومية» الجغرافية، او «قسمة» الامتيازات والغنائم، فالمواطنة في ابسط مدلولاتها تقوم على الانتصار «للعدالة» العابرة لكل التصنيفات الديموغرافية، وحق الناس بالكرامة الانسانية، وترسيم علاقتهم فيما يبنهم ومع الدولة على اساس معادلات صحيحة توازن بين الحقوق والواجبات.
صحيح، ثمة احساس بالتهميش يشعر به البعض، وثمة مطالب محقة نسمعها تتردد في الشارع او نعرفها حتى لو لم يشهرها اصحابها، لكن هذا الاحساس وتلك المطالب المعبّرة عنه لا تتعلق بفئة محددة بأصولها او منابتها، وانما بحالة عامة تسببت فيها سياسات خاطئة، وانتجتها ظروف سياسية واقتصادية يفترض ان نقف جميعا من اجل تغييرها. لا نعدم الجرأة لكي نقول بان ما يعاني منه المواطن في الاطراف والمحافظات هي ذات المعاناة التي يشعر بها المواطن في المدن والمخيمات، المسألة لا تتعلق ابدا بمقولات «العنصرية» التي يبالغ فيها البعض لاسباب غير مفهومة، فانا مطمئن تماما الى انه لا يوجد لدينا عنصرية، ولو كانت تلك حقيقة لما عرفنا حالة «مصاهرات الدم» التي هي اهم من «مصاهرات السياسة»، ولما اجتمع الناس في بلدنا –بلا استثناء- على قيم الاخوة والمناصرة تحت ظلال «الاسرة الواحدة» التي جعلت الاردني –مهما كانت افكاره ومواقفه وظروفه- عربيا بالفطرة، وقضيته هي فلسطين، وبوصلته لا تحيد عن القدس قبلته الاولى. المشكلة تتعلق بما افرزته السياسة من حيل واخطاء، وبما انتهت اليه الاستقطابات المغشوشة من «توظيف» لمكونات المجتمع، ومحاولات لضرب «بناه» ومكوناته، فالذين تركوا لنا هذا «الارث» من الآثام لم يكونوا محسوبين على طبقة سياسية محددة او فئات اجتماعية وجغرافية وانما على «مجتمعنا» كله بكل اطيافه وفئاته، كما ان الذين دفعوا ضريبة هذه الاخطاء هم السواد الاعظم من المواطنين اينما كانت «مساكنهم» ومهما كانت انسابهم واتجاهاتهم وميولاتهم.
نريد الان ان نبحث عن الحل بعيدا عن «أنفاس» التقسيم والحصحصة، واشتباكات «مصالح» النخب، وفزّاعات الاوطان الاصيلة والاخرى البديلة، فالكل في «الهمّ شرق» وعافية البلد تقاس «بمتانة» لحمتها وصلابة جبهتها الداخلية.. ولا حل الا بالتوافق على مشروع الاصلاح الذي تؤسس له «روح» المواطنة الحقيقية وقيم «الاخوة» العابرة للشكوك والاصطفافات. لا يوجد افضل من هذا التوقيت؛ لكي تخرج «نخبنا» التي تتبنى منطق «المظلومية» عن صمتها واحيانا تواطئها، لتنضم الى حلف دعاة «الاصلاح» وتنحاز الى مشروعه وتدافع عن حق الاردنيين كلهم في العدالة والكرامة والمساواة وعن «واجباتهم» تجاه البلد الذي يحتاج الى استعادة عافيته من خلال «الوحدة» والتكاتف والانتصار للقانون واقامة «المجتمع» على اسس من المدنية والحداثة لا على انقاض «الافكار الميتة» التي حولتنا الى قبائل متصارعة.
لا يوجد في بلدنا اليوم «غنائم» حتى نختلف ونتشابك من اجلها، وانما يوجد «تحديات» ونوازل كبرى يفترض –بل يجب- ان نتدافع لكي نتحمّل قسطا من اعبائها.
ولهذا لا بد ان نحبس «انفاس» المحاصصة وان نمنع هؤلاء الذين يقفون على طرفي نقيض من ان يأخذونا الى ساحات معاركهم «الوهمية» ليغرقونا في مستنقع «الجلد المتبادل» والعبث بنواميس مجتمعنا التي استقرت على مبادىء الوئام والمحبة.. لا الشقاق والاحتراب. بوسع الاردنيين الذين يشعرون «بالتهميش» او بالتعب من الماضي والحاضر او الخوف من المستقبل ان يغتنموا فرصة «الاصلاح» ومواسم تحقيقه، بدل ان يتحولوا –بخطيئة النخب- الى عثرات في طريقه او الى «مصدات» تمنع رياحه من الوصول الى مجتمعنا.. وتحرمنا من «بركاته» القادمة!
( الدستور )