ثلاثة أرباعنا!!

سواء كانت هذه النسبة تشمل كوكباً بأسره حيث يعاني أكثر من أربع مليارات من ساكنيه الفقر والتشرد والمرض، أو تشمل عالمنا العربي الذي تقضم الأمية أكثر من نصفه ويتولى الجوع والمرض النصف الآخر، أو تقتصر على بلد أو حتى على عائلة، فان الربع الباقي لن ينجو، لأن الفقير في بلد غنيّ أحسن حالاً من غني في بلد جائع، اللهم الا اذا سلمنا بأن من حق المريض أن يزهو على الميت بصحته ومن حق الأعور أن يعيّر الأعمى بفقدان بصره.
والغريب ان الأطالس وخرائطها ومقاييس رسمها التي صورت تضاريس عالمنا لم تتغير الا قليلاً، رغم ان ما يقترحه العلماء وما يسمونه جغرفة الجوع أو ثالوث المرض والجهل والفقر يجتاح الى تضاريس جديدة لا علاقة لها بالدول وحدودها الاقليمية واعلامها وأناشيدها القومية، خصوصاً بعد ان شطب مصطلح السيادة بمعناه التاريخي والسياسي الدقيق من المعاجم الحديثة وطبعاتها المعولمة.
كنا في الماضي نستثني ربعاً واحداً من صحرائنا ونسميه الربع الخالي أو الربع الخراب، لكن الاحوال تغيرت، وأصبح الخراب يهدد ثلاثة أرباع البلاد والعباد، ومن ينظر في احوال قريته أو عائلته كمصغر لهذا العالم قد يجد أن ما تبقى خارج الرّماد هو أقل من الرّبع، فالوعي يتدنى منسوبُه رغم ارتفاع نسبة المتعلمين, والامراض التقليدية التي ظن الناس أنهم ودعوها عادت محملة بفيروسات بالغة الرشاقة وشديدة التأقلم، وثمة دول احتفلت باسدال السّتار على الأمية، لتجد نفسها الآن فريسة لها.
وقد يكون هناك من يتهمنا بالافراط في التفاؤل عندما نتحدث عن الربع المعافى، لأن ما كان مجرد حالات فردية أصبح ظاهرة وما كان مجرد مرض يعاني منه افراد أصبح وباء، لكن ليس لدينا من الجرأة ما يكفي لاعلان ثلاثة أرباع هذا العالم منطقة منكوبة، لان فهمنا للنكبة ما يزال قاصراً وحكراً على الطبيعة وكوارثها، رغم ان زلازل التاريخ وأعاصيره أشد بلاء وفتكاً..
وما نخشاه هو ان يعتذر الربع للثلاثة أرباع، تماماً كما يطالب المعافى بالاعتذار للموبوء والسويّ للشاذ والعالم للجاهل والوطني للجاسوس!
ذلك لأن ثلاثة ارباع المفاهيم والمصطلحات جرى تحويرها وتعرضت لعمليات جراحية واسعة كي تستجيب رغماً عنها لما يراد منها أن تقوله.
فالكلمات لم تعد تعني دلالاتها التاريخية وأصابها ما أصاب المجتمع الذي تخيله جورج اورويل قبل ستة عقود، بحيث تعني كلمة سلام الحرب وكلمة الحب الكراهية وكلمة الشقيق العدو.
نعرف مثلاً ان التحرير كان على امتداد تاريخ البشر نقيض الاحتلال والاستعمار لكنه أصبح في عصرنا مرادفاً له، وقد تكون أول حادثة دشنت هذه الحقبة من التاريخ تلك التي أحرق فيها جنرال امريكي قرية فيتنامية، وأباد كل من فيها، وحين سأله أحد الضباط عن السبب أجاب وهو يضع يديه على خاصرتيه ويعلك:
- من أجل انقاذها!! ( الدستور )