حبّ مِنْ طرف واحد

يُقدِّم المرشَّحون للرئاسة الأمريكيَّة أوراق اعتمادهم الانتخابيَّة، في العادة، في القدس المحتلَّة أو في مقرّ الآيباك في الولايات المتَّحدة؛ ليس لأنَّ "إسرائيل" تهيمن على الولايات المتَّحدة وتتحكَّم بها، كما تقول الفكرة السطحيَّة الساذجة؛ بل لأنَّ لـ"إسرائيل" مكانة خاصَّة في الثقافة الربويَّة الرأسماليَّة الأنجلوسكسونيَّة البروتستنتيَّة، ولأنَّها المخفر المتقدِّم في المنطقة العربيَّة للدفاع عن مصالح المراكز الرأسماليَّة الدوليَّة؛ المخفر الذي يكلِّف أقلِّ بكثير ممّا يكلِّف إرسال الجيوش الإمبرياليَّة إلى المنطقة. وقد رأينا، خلال السنوات الماضية، التكلفة الباهظة التي دفعتها الولايات المتَّحدة مِنْ أموالها ومعدَّاتها وأرواح أبنائها ومكانتها السياسيَّة وأوضاعها الاقتصاديَّة، عندما جاءت إلى المنطقة، بنفسها، واحتلَّت العراق. بل إنَّه من المتوقَّع لها أنْ تظلّ تسدِّد فواتير حملتها العسكريَّة الخاسرة، تلك، إلى أمدٍ غير منظور.
هذه الحقائق البديهيَّة ليست هي ما أريد تناوله هنا؛ بل حال الكثيرين مِنْ بني جلدتنا، الذين كلّما ظننّا، لفرط حسن نيَّتنا، أنَّهم خرجوا من الحضن الأمريكيّ، نفاجأ بعودتهم الصاخبة إليه والتصاقهم به أكثر من السابق.
جماعتنا مولّهون جدّاً بحبّ أمريكا، ومستعدّون دائماً لتقديم الخدمات المجانيَّة لها؛ أعني، خصوصاً، الخدمات التي كثيراً ما تبلغ حدَّ خوض الحروب بالوكالة عن الولايات المتَّحدة، وتقديم الأرواح، رخيصةً، إكراماً لعيونها وخدمة لمصالحها. ومع ذلك، يتصرَّف قادة الولايات المتَّحدة بلا أدنى اعتبار لجماعتهم "العرب" أو مراعاة ظروفهم. فيعبِّرون بصورة استفزازيَّة ووقحة عن انحيازهم الكامل لـ"إسرائيل" على حساب العرب جميعاً؛ وخصوصاً على حساب قضيَّتهم المركزيَّة.
لكن لماذا تتوجَّب على الأمريكيين مراعاة المشاعر (والمصالح) العربيَّة، إذا كان الولاء "العربيّ" للولايات المتَّحدة غير مشروط وبلا حدود؛ وإذا كان بعض العرب، أنفسهم، قد أصبح، هو الآخر، يحجّ إلى الآيباك ويغازل "إسرائيل" مِنْ أجل ضمان عدم اعتراضها على وصوله إلى سدَّة السلطة في بلاده؟! حتَّى إنْ كانت هذه السلطة مرهونة لشروط التبعيَّة للولايات المتَّحدة وحلفائها.
ويترافق مع ذلك، سعيٌ محموم، وبكلّ السبل، لفرض صيغة بروتستنتيَّة من الإسلام (أي صيغة رأسماليَّة وتستند إلى "العهد القديم") على البلاد العربيَّة؛ مِنْ خلال التعاليم الوهَّابيَّة، كبديل للصيغة الإسلاميَّة المتحضِّرة لبلاد الشام والحواضر العربيَّة الأخرى.
بالطبع، ثمَّة فارق شكليّ بين البروتستانتيَّة الغربيَّة وبين البروتستانتيَّة الإسلاميَّة؛ فارق شكليّ حسب؛ فالبروتستانتيَّة الغربيَّة تستند إلى التوراة، بوضوح، ومِنْ دون لفّ أو دوران، وتعتبرها الركن الأساس في كتابها المقدَّس، في حين أنَّ التيَّارات الدينيَّة الوهَّابيَّة (البروتستانتيَّة الإسلاميَّة) لا تعترف بالنصّ التوراتيّ المتداول، وتعتبره محرَّفاً وغير مقدَّس؛ لكنَّها، عمليّاً، تأخذ بتعاليمه، وتؤمن بحكاياته، وتتبنَّى قصصه؛ مثلها مثل البروتستانتيَّة المسيحيَّة الغربيَّة تماماً. ويمكن النظر إلى الموقف من المرأة، على سبيل المثال، والهيئة التي يحبّ أنْ يظهر بها المتعصِّبون من البروتستانت المسيحيين والوهَّابيين واليهود، وموقف هؤلاء، جميعاً، الحقيقيّ، من الجوهر الربويّ للنمط الاقتصاديّ الرأسماليّ. مع فارق أيضاً أنَّ البروتستانتيَّة الإسلاميَّة تصف النمط الرأسماليّ الربويّ الذي تتبنَّاه بأنَّه نظام اقتصاديّ إسلاميّ!
مِنْ هذا المدخل، يمكن فهم بعض التحالفات الإقليميَّة والدوليَّة النشطة الآن؛ فبالإضافة إلى الاعتبارات السياسيَّة، والمصالح الاقتصاديَّة، والتعبيرات الطبقيَّة، فإنَّ العامل الدينيّ له دور أساسيّ في نسج هذه التحالفات، في الماضي والحاضر، بين الغرب (الولايات المتَّحدة خصوصاً) وبين التيَّارات الدينيَّة الوهَّابيَّة. ( العرب اليوم )