احتراماً لعقولهم

يحتجّ بعض مَنْ يقفون في الخندق الآخر (سنسمّيهم في هذا المقال "أصحابنا")، بشدَّة، عندما نسمِّي القوى والأطراف، الموجودة معهم في الخندق نفسه، ونضع، في مقدِّمتها، الأطلسيّ والخليج والحركات الوهَّابيَّة، وعلى رأسها، جميعاً، الولايات المتَّحدة؛ فيرفضون هذا التصنيف، قائلين إنَّه ليس بالضرورة أنْ يكون كلّ مَنْ يقف في الخندق الآخر محسوباً على الأمريكيين والأطلسيين والخليجيين.
لا بأس؛ علينا، إذاً، "أنْ نحترم عقولهم"، كما تعوَّدوا، هم، أنْ يطلبوا منَّا. لذلك، فإنَّنا سنصيغ الأمر على النحو التالي: هم والأمريكيّون والأطلسيّ والخليج موجودون، حسب، مع بعضهم البعض في الخندق، نفسه؛ وذلك بالصدفة المحض؛ كما أنَّهم يطخّون، معاً، مِنْ ذلك الخندق، على الجهة الأخرى المقابلة، نفسها، بالصدفة أيضاً؛ والأهمّ، هو أنَّ "أصحابنا"، أولئك، لا يتكلّمون مع الأمريكيين وجماعتهم؛ بل إنَّهم، حتَّى، "لا يعطونهم عيناً"، ويتعمَّدون أنْ لا يروهم رغم وجودهم الفيزيائيّ وسواه إلى جانبهم.
وفي ذلك الخندق، الولايات المتَّحدة ودول الأطلسيّ هي المقودة، وليس العكس؛ وبالتالي، فإنَّها تنتظر دائماً التوجيهات اللازمة من الأطراف الموجودة معها بالصدفة (أعني "أصحابنا"، بالطبع) وتسير وفق خطَّتهم ولتحقيق أهدافهم ومشيئتهم؛ وهي تقوم بما تقوم به، كفعل خيرٍ خالصٍ لوجه الله تعالى، لنصرة الشعب السوريّ ونشر الديمقراطيَّة هناك، وستعمل، في أثناء ذلك وبعده، كلّ ما باستطاعتها، للحفاظ على وحدة سوريَّة (بالطريقة الناجحة نفسها التي اتَّبعتها في العراق وليبيا والصومال وأفغانستان وسواها)، وستحترم استقلالها، وستعمل على تعزيز قوّتها في وجه "إسرائيل". وهذا، بالذات، هو ما دفع بعض "أصحابنا" إلى القول، بحماس: "إنَّ الطريق إلى القدس يمرّ بدمشق". لذلك، من الطبيعيّ أنْ تقف "إسرائيل" في الخندق الآخر المضادّ لوليَّة نعمتها، جنباً إلى جنب مع "حزب الله"، ودول البريكس، ودول أمريكا اللاتينيَّة المستقلّة، واليسار الدوليّ؛ وأنْ يجافي النوم عينيها، في الليل وفي النهار؛ لأنَّها ترى أنَّ هناك مَنْ يهدِّد النظام السوريّ ويحاول الإطاحة به؛ فالإطاحة بهذا النظام ستزيل آخر عقبة كأداء مِنْ أمام قوى الممانعة في الخليج، وستعزِّز دور المقاومة اللبنانيَّة الباسلة، التي يقودها سمير جعجع وأمين الجميّل وسعد الحريريّ ووليد جنبلاط والجماعات الوهّابيّة المسلّحة، عدوّ "إسرائيل" الأوَّل، الذي لا يكفّ عن القتال ضدّها.
وبالنظر إلى هذا الاصطفاف المشرِّف لأصحابنا أولئك، فإنَّني أتساءل، مستغرباً، عن السبب الذي يجعلهم يخجلون بحلفائهم الطبيعيين أو الموضوعيين أو الفعليين أو الصدفويين (أترك لهم اختيار التوصيف الذي يفضِّلونه)، من الأمريكيين والأطلسيين والخليجيين وسواهم؛ خصوصاً أنَّ حلفاءهم، أولئك، لا يقصِّرون معهم، مطلقاً؛ فبعضهم يمدّ "الثورة" الأحبّ إلى نفوس "أصحابنا"، بالسلاح، وبعضهم الآخر يمدّها بالمال والمعدّات، وسواهما يؤمِّن لها الغطاء السياسيّ على مستوى الجامعة العربيَّة (التي أصبحت خليجيَّة)، أو على مستوى الجمعيَّة العامّة للأمم المتَّحدة ومجلس أمنها، اللذين أصبحت "الثورة السوريَّة" شغلهما الشاغل؛ وسواهم يؤمِّن لها التغطية الإعلاميَّة المكثَّفة عبر آلاف الفضائيّات والصحف الورقيَّة والمنابر الإلكترونيَّة. المشكلة، فقط، هي في الفيتو الروسيّ الصينيّ الإمبرياليّ الذي عطَّل هذه المسيرة الخيِّرة التي تريد أنْ تقيم الديمقراطيَّة في سوريَّة.
بيد أنَّ كلَّ هذه المواقف والمساعدات لا تكفي لإنجاح "الثورة"، بنظر "أصحابنا"؛ لهذا، فهم لا يكفّون عن مطالبة الأمريكيين والأطلسيّ (بعضهم يفعل ذلك مِنْ وراء حجاب، طبعاً، وليس مباشرة؛ وبعضهم الآخر، بالخفاء، وبعضهم الثالث ضمناً، حتَّى إنْ نطق بغيره)، بضرورة إرسال قوّاتهم المسلّحة إلى سوريَّة لفرض الديمقراطيَّة عليها بالقوّة، كما حدث في العراق وليبيا. لكن المشكلة هي أنَّ الأمريكيين لا ينسون، مع الأسف، أنَّ مسعاهم الإنسانيّ النبيل لفرض الديمقراطيَّة في العراق، قوبل بالجحود والنكران من العراقيين، وجلب لهم الكثير من المصاعب والخسارات. ( العرب اليوم )