قهوة بالدّم

يصحو عباد الله على هذا الكوكب من النوم ومن أحلامهم ليشربوا القهوة بالحليب أو باضافة أي شيء آخر، والعربي يصحو من كابوسه المزمن ليشرب قهوة بالدم، لأنه شرب من القهوة المرة ما يكفي، وحين سخر من هذه المرارة رئيس أمريكي دفع الثمن، لأن قاتله سرحان طالما عرف مرارة القهوة في أتراح بلاده، حيث لا أفراح منذ توقف الزمان عند الخامس عشر من أيار.
يصحو العربي من كابوسه على نشرة أخبار مبتدأها وخبرها دم أيضاً.. ولو اخترنا عيّنة من ظهيرة سوداء لكانت كالآتي: عشرون عراقياً وخمسة فلسطينيين وأحد عشر ليبيا وسبعون سوريّاً ولبنانيان وخمسة عشر يمنياً، اضافة الى المئات من ضحايا السفن التي سوست وانتهت صلاحياتها والقطارات التي صدئت.
كيف تكون القهوة إذن أثناء الاصغاء الى نشرة كهذه؟ فهي ليست مرّة بل لها مذاق الدّم وسرعان ما يكتشف العربي الذي لم يفقد رشده بعد ولم يشرب من نهر الجنون، أنه أشبه بالقط الذي يلحس مبرداً من الحديد ويستمرىء طعم دمه سواء في فنجان قهوته أو في الماء الذي يقف في حلقه لأن الغصة عميقة ومزمنة.
موت من الجهات الأربع، وثمة جهة خامسة هي الفضاء لا نعرف متى تنعق فيها غربان الفولاذ، وقلنا من قبل أن هذه المالتوسية بالطبعة العربية هي وصفة سحرية لتحديد النسل، فالعرب رغم صحاراهم الشاسعة والمهجورة من مساحات أوطانهم يشكون من الفائض الديمغرافي، ومصر وحدها بالتسعين مليونا من أهلها تعيش على أربعة بالمئة فقط من مجمل مساحتها.
هذه القطرات من الدم التي تطفو على سطح فنجان قهوتنا لها أسباب متناقضة وهي لا تتعايش أو تتصالح الا في هذا الفنجان، فمن نقتلهم من بعضنا أضعاف ما قتل الأعداء منا، ومن ينجو قد يتربص به التخوين أو التكفير أو التجريم الى أن يقضي الله امراً كان مفعولا!
أذكر ان فيدل كاسترو كان يقول لضيوفه ان السكر في بلاده مرّ رغم أن الشعوب الاخرى تقاوم به مرارة الشاي والقهوة وحتى العلقم، وهو لا يدري كم هي مرّة في عالمنا العربي عناقيد العنب في كل جنوب، بدءاً من لبنان وفلسطين حتى العراق واليمن ولا يدري بأية معجزة حولنا النعمة الى نقمة والفائض الى مديونيات.
كيف نواصل شرب قهوتنا عندما نصحو صباحاً أو في الظهيرة أو حتى في الهزيع الاخير من الليل دون ان نشعر أنها ممزوجة بالدم؟
فمنذ عقود ما من نشرة أخبار الا ويتدلى منها عنقود قتلى أو شهداء، ومنذ عقود ونحن نحصي أيامنا بملاعق الدّم وليس بملاعق القهوة كما يقول الشاعر الانجليزي اليوت، - ما دام للشعر ولو حصة عصفور أو فراشة في هذا المقام. فمن المناسب ان نتذكر ما كتبه الالماني يرتلولد برخت، وهو عندما تأتي الاجيال القادمة وتجد الأزقة والشوارع والساحات قد أتخمت من دم الناس فإنها ستسأل حتى الحجارة والأشجار: أين كان المثقفون والشعراء والحكماء؟
هي قهوة عربية ليست مرّة وليست بالحليب أو منزوعة الكافيين.. انها قهوة بالدم!!( الدستور )