من جديد .. عن السودان و« جنوبه »

بخلاف الاحتفاء الرسمي بالتوقيع على اتفاق أديس أبابا الأخير بين «دولتي» السودان، استقبل الرأي العام في كلا البلدين أنباء الاتفاق ببعض الفتور وكثير من الشكوك حول ما إذا كانت «حروب الإخوة الأعداء» قد وضعت أوزارها..على الأقل هذا ما أوردته نشرات الأخبار وتقارير المراسلين.
مصادر الشك وانعدام اليقين، متعددة...أهمها أن الاتفاق حول القضايا الخلافية الأهم: ترسيم الحدود ومصير أبيي، لم يُحسم بعد...وثمة أشواط مريرة وشاقة يتعين قطعها قبل أن تُطلق شارة البدء للاحتفال بانتقال البلدين من عصر الصراع والمواجهات الدامية، إلى مرحلة من التعاون وحسن الجوار وإجراءات بناء الثقة.
الإتفاق الذي من المقرر أن يقره برلمانا البلدين خلال أربعين يوماً، تركز في الأساس حول النفط..هنا حصل تقدم كبير، بفعل الوساطة الأفريقية، وأمكن لكل جانب، بعد تقديم قسطه من التنازلات، أن يحظى بنصيب معقول من عائداته..السودان تراجع من طلب 36 دولاراً على كل برميل يعبر أرضه إلى 21 دولار...وهو أسقط حقوقاً له عن النفط المُصَدر منذ مطلع العالم وحتى إعلان جوبا وقف تصدير النفط مؤخراً...جنوب السودان تخلى عن «مزاعمه» بقيام الخرطوم بسرقة نفطه وأسقط مطالباته في هذا المجال، وكلا الطرفين تخلى عن حقوق مالية أخرى كان يطالب بها أحدهما الآخر..هنا يمكن القول أن صفحة جديدة قد فُتحت في سفر العلاقات الثنائية، ودائما تحت إلحاح الضائقة الإقتصادية والمالية التي تعتصر الجانبين، والتي زاد من حدتها وتفاقهما، تخلي الحلفاء الإقليميين والدوليين عنهما،ونكوصهم عن التزاماتهم ووعودهم.
لقد ظن الجنوب، أنه سيكون الابن المدلل على الدوام للغرب واليمين الأمريكي واللوبي الصهيوني و»الكنيسة المتصهينة»...نسي الجنوبيون أن «شهر العسل» قد انتهى بانتهاء وحدة السودان، وأن جوبا لن تكون سوى «عاصمة أفريقية أخرى» بعد إتمام وظيفتها في تفتيت السودان وتشظيته....وظنت الخرطوم أن قبولها بانفصال الجنوب بدايةً، وانتهاجها مقاربة غير منحازة لنظام الأسد، سيفتح عليها خزائن الخليج، هذا لم يحدث لا مع الخرطوم ولا مع غيرها من عواصم المنطقة، ليصل الجانبان إلى خلاصة مشتركة: مشاكل السودانيين لا يحلها سوى السودانيين أنفسهم.
ثمة اتفاقات أخرى لا تقل أهمية جرى بعثها وتوقيعها وإعادة الاعتبار لمبادئها الرئيسة، كالإتفاقات الأمنية و «اتفاق الحريات الأربع»...حرية التنقل والإقامة والتملك والعمل، وهو الإتفاق الذي إن نُفذ بحسن نية، سيسهم في معالجة مشكلات يعاني منها ثمانية ملايين مواطن على ضفتي الحدود الطويلة بين البلدين والتي تناهز الألفي كليومتر...السودان قلق من تحول جنوبه إلى مصدر تهديد لأمنه ووحدته الترابية، وهو يتهم الجنوب صراحة، بإثارة القلاقل ودعم الانشقاقات في دارفور وجنوب بحر الغزال وكردوفان...أنهم يصفون دولة الجنوب بـ»إسرائيل ثانية» على حدودهم الجنوبية، وهم في هذا لديهم ما يبرر قلقهم وتحسباتهم.
لقد اتفق الجانبان على إنشاء منطقة عازلة بعمق عشرين كيلومتراً مناصفةً على ضفتي الحدود، ولا أدري كيف سيتم القياس ومن أين، طالما أن خط الحدود (خط الصفر) لم تتقرر بعد، وأحسب أن هذه أيضاً ستكون واحدة من «القنابل» التي قد تنفجر في وجه من سيرسمون الحدود من الجانبين وخبراء الإتحاد الأفريقي ومراقبيه.
بعد أيام، سيدخل الجانبان معترك تفاوضي جديد لترسيم الحدود ولعل المشكلة الأبرز ستكون مدينة «أبيي» الغنية بالنفط، وهي المدينة التي تُسمى «كركوك السودان» في إشارة إلى كركوك العراقية الغنية بالنفط، وموضع التنازع بين العرب والأكراد والتركمان العراقيين، فضلا عن العديد من المناطق، الأقل أهمية، التي سيتعين ترسيمها.
«أبيي» ستكون عقدة العقد، هذا أمر يجمع عليه المراقبون...وهي قد تكون تتويجاً للإتفاق وترسيخاً له، وقد تتحول إلى «مسمار أخير في نعشه»، كلا الطرفين يبدو مستمسكاً بـ»روايته» عن تاريخ المدينة وجغرافيتها وهويتها، وثمة «حوافز» اقتصادي تغذي ميل كل فريق للإصرار على وجهة نظره....لذا أحسب أن الوقت قد حان لـ»التفكير من خارج الصندوق»...أبيي يجب أن تحظى بمكانة «قانونية» خاصة، وإن تتحول إلى منطقة اقتصادية حرة، وأن يتقاسم الجانبان ثرواتها ومواردها، لتكون «اللاصق» الذي يجمع البلدين، لا الفتيل الذي سيشعل الحرائق بينها.
على أن ما يعتمل في النفوس، يبقى أهم بكثير مما جاءت به النصوص...فالسودان على وجه الخصوص، ما زال موضع أطماع و»مؤامرات»، تستهدفه بذاته، ومن خلاله أمن مصر ومياهها، بل ومجمل القارة السوداء...والجنوب الذي احتفظ بعلاقات طيبة مع إسرائيل و»اللوبي» و»المحافظين الجدد» و»الكنيسة المتصهينة»، لم يبعث للشمال، بما يكفي من رسائل الطمأنينة والإطمئنان، وهو لم يتخل بعد عن دوره في تفتيت السودان، ليصبح «الدولة الأكبر والأقوى» في المنطقة، سيراً على النهج الإسرائيلي الذي يسعى في تجزئة المشرق العربي إلى دويلات قومية ومذهبية، لتصبح إسرائيل، أكبر دول المنطقة وليس أقواها فحسب.
( الدستور )