تشوه هيكل الرواتب والعدالة الغائبة

الدراسة المصرية الحديثة عن هيكل الرواتب وسوء توزيعها في مصر، لها ما يماثلها في الأردن. فأقل من ستة آلاف من "كبار" موظفي الجهاز الحكومي المصري يحصدون نصف الرواتب المقررة في الموازنة العامة للأجور، ولدينا هنا تحصد الرواتب والأجور والعلاوات نصف ميزانيات المؤسسات المستقلة التي تبلغ 1.8 مليار دينار.
لا غرابة في التمادي في بند الرواتب والأجور على صعيد الميزانيات الحكومية أو الصادرة عن المؤسسات الخاصة. وشركة تعدينية كبرى، وهي من الشركات المساهمة العامة؛ أي أموال عامة، تمنح راتبا لمدير عام يفوق 39 ألف دينار شهريا، ويحصل في ذات الشركة 10 موظفين فقط من الإدارة العليا على رواتب تتخطى مليون دينار سنويا، فيما يتقاضى موظف حاصل على دبلوم في الموارد البشرية راتب 4500 دينار في مؤسسة شبه حكومية أيضا. ويتصاعد راتب مدير عام ورئيس مجلس إدارة بنك كبير إلى 40 ألف دينار.
ليس في الرواتب وحسب، فعندما يتم توزيع المكآفات في الشركات والبنوك الكبيرة تذهب حصة الأسد في العادة إلى كبار الموظفين الذين يستأثرون بنصف المبالغ المخصصة، لتتجه البقية إلى العدد الأكبر من الكوادر التي تعمل وتتعب وتحصل على الفتات في نهاية عام كامل. وحدث في أحد مصارفنا أن دُفعت فاتورة تجميل أسنان لمسؤول كبير في البنك بمبلغ يقارب خمسين ألف دينار من أموال المساهمين، بينما ضاق البنك ذاته بفاتورة علاج زوجة أحد المراسلين فيه بمبلغ 1700 دينار فقط!
قصة الرواتب وحدودها الدنيا والعليا، تروي فصلا من فصول غضب الجماهير العربية التي بحت حناجرها خلال أشهر الربيع العربي وقبله. وأساس الغضب أن هيكل الرواتب ليس عادلا، وينطوي على توزيع ذاتي شخصي، وسط تغييب الكفاءة والتأهيل والفائدة المرجوة من الموظف أو المدير. وهذه الهيكلية المرتبكة أربكت معها الاقتصاد برمته، وأعادت إنتاج الطبقات وفق مفاعيل غير مفهومة. فتجد سكرتيرة -مع كل الاحترام لهذه المهنة- تملك شبه فيلا، بينما يعاني قاض من إزعاج جيرانه في بيته المستأجر في منطقة شعبية. ولا يمكن التعميم هنا، لكن واقع الحال يشير إلى أن هيكل الرواتب لا يحترم مهنة بعينها، بل يكيل بعدة أوزان. ولو كان ثمة احترام لمهنة، لما كان المعلمون في الدرك الأسفل لسلم الرواتب في بلادنا، بينما هم في مراتبه العليا في دول أجنبية عديدة.
الدراسة الاكتوارية السادسة التي أجرتها مؤسسة الضمان الاجتماعي ومنظمة العمل الدولية تصب في ذات الدلالة التي ينبغي بعدها مراعاة المعايير في هيكل الرواتب والأجور. إذ توقعت الدراسة تساوي الإيرادات التأمينية مع النفقات بحلول 2016. كما ذهبت إلى أن العام 2026 سيكون خطيرا، يستدعي الحاجة إلى الأخذ من عوائد الاستثمار لتغطية عجز النفقات بعد استنفاد كامل الإيرادات، وصولا إلى خطر أكبر في العام 2036، وهو بيع الموجودات لتغطية التزامات ونفقات المؤسسة من رواتب تقاعدية وسواها. وهو ما دعا بشكل مفهوم إلى تعديل قانون الضمان في العام 2009، بما يسمح بحل بعض الاختلالات، عبر فرض قيود على التقاعد المبكر، ووضع حد لسقف الراتب بما لا يزيد على 5 آلاف دينار عقب وصول بعض الرواتب إلى مستويات شاهقة لا قدرة للضمان على التعامل معها.
الحلول التي وضعها قانون الضمان المعدل جيدة، وتقطع الطريق على بعض مخاوف الدراسة الاكتوارية. والهيكلة التي نفذتها الحكومة السابقة لم تجب عن أسئلة هيكل التوزيع غير العادل داخل القطاعين العام والخاص. والمطلوب فعلا أن يكون من ثمار الربيع العربي وضع الأسس لهياكل الرواتب، وتقليص الفروقات الشاسعة، والارتقاء بالمهن، والنظر بعين العدل للفقراء الذين يتمتع غيرهم بثروات الدولة.
( الغد )