التنوير الممنوع!!

دفع رواد النهضة العربية ثمن محاولاتهم للتنوير والاصلاح، ومنهم من مات مسموماًَ كالكواكبي وان كان الامام محمد عبده قد وضع النقاط على الحروف وسمى الاشياء بأسمائها بلا أية مواربة، ففي لحظات احتضاره كتب شعراً يقول:
ولست أبالي ان يقال محمد
أبل ام اكتظت عليه المآتم
ولكنه دين أردت صلاحه
أحاذر أن تقضي عليه العمائم!
واسم محمد بالطبع هو اسم الامام محمد عبده درءاً لأي التباس، ولم يكن غريباً ان يطلق على السجال الساخن الذي دار في مصر في مطالع القرن العشرين اسم المعممون والمطربشون، نسبة الى العمامة والطربوش، وكان التنويريون الرواد من اصحاب الطرابيش كطه حسين الذي حوصر وحوكم بسبب صدور كتاب، ولم تسلم حتى العمامة من تلك المطاردة كما حدث لعلي عبدالرزاق بعد صدور كتابه الشهير عن الاسلام وأصول الحكم، وكان يتصدى لدعاة نقل الخلافة من الاستانة الى مصر الخديوية مثل خير الدين التونسي، ردد الشاعر ابوالقاسم الشابي أبياتاً من شعره لا يعرفها معظم من حفظوا اذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد ان يستجيب القدر.
قال الشابي.. بأنه ايضاً لا يبالي وهي الكلمة التي قالها الامام عبده وهو يحتضر، لكن الشابي ذهب الى ما هو أبعد ربما بسبب صغر سنه حيث مات دون الخامسة والعشرين وما قاله هو:
لا أبالي وان اريقت دمائي
فدماء العشاق دوماً مُباحة
ويبدو ان قدر التنويريين العرب ان يعاقبوا احياء ثم تردد اقوالهم في مظاهرات احفادهم واحفاد احفادهم بعد الموت، لهذا كان التنوير وما يزال من ثقب ابرة كما يسميه د. رفعت السعيد، انه يأتي على استحياء وبحذر وسرعان ما يعترضه الاجهاض المزدوج من المحتل والمستبد معاً.
فهل كان محمد عبده يقصد ان الحذر يؤتى من مأمنه؟ وان الحظر على اية فكرة او عقيدة يأتي من اساءة فهمها والتطرف بها وأخيراً انتحارها بيدها قبل أيدي خصومها؟
ان من لم يقرأوا تاريخهم هم أيتام وليسوا فقط أميين، لهذا فان التاريخ لن يرحمهم كما ان القانون لا يحمي الجاهلين به، وهناك عبارة شهيرة لجورج سانتيانا تتجلى صدقيتها ميدانياً في عالمنا وفي ايامنا، هي من يجهل التاريخ سيحكم عليه باعادة أخطائه مضاعفة، اي تحويلها الى خطايا.. وبدون مواجهة القطيعة بين هؤلاء الرواد وبين احفادهم فاننا محكومون بالبدء دائماً من أول السطر، بل من الصفر!!
( الدستور )