أجيال بلا آباء ! !

البشر أبناء عصرهم أكثر من آبائهم، ذلك ما يقوله أمين معلوف نقلاً عن المؤرخ مارك بلوخ، ومعنى ذلك أن الأب الحقيقي للطفل ليس ذلك الرجل الذي أنجبه، بل هو جملة أنماط التفكير والممارسات السائدة في عصره لهذا أصبح لمفردة العقوق معنى ودلالات أخرى غير تلك التي سادت زمناً طويلاً، وما يقال عن حق الأجيال في الاختلاف يوشك أن يمحو الفارق بين العقوق والحقوق في زمن أصبح التسامح فيه محموماً، ولا يقارن على الاطلاق بايقاعات التطور في أية مرحلة من مراحل التاريخ، فما حدث خلال أقل من نصف قرن من تطور وانقلابات على صعيد المعرفة والتواصل كان يتطلب عدة قرون لانجازه، وهذا ما تنبأ به علماء تخصصوا في المستقبليات أو علم المستقبل بعد أن كان هذا العلم مجرد نبوءات وتوقعات وقراءة في الحثالة العالقة بفناجين القهوة ومن هؤلاء توفلر الذي تحدث قبل عقود عما سماه صدمة المستقبل، وهذا ما حدث بالفعل، فالجيل المخضرم الذي عاش طفولته وصباه في الخمسينات والستينات من القرن الماضي يقضي الآن شيخوخة باردة محرومة من أدوات الماضي وتقاليده وثقافته، والمسألة هنا ليست مفاضلة بين عصر وعصر بقدر ما هي مقارنة قد تنتهي لصالح الجيل المخضرم الذي تشرب ثقافة وطنية كان فيها لمفهوم السيادة معنى، وللاستقلال وهج وألق يستحقان التضحية، وعلينا أن نعترف رغم المرارة بأن ثقافة العولمة قضمت مساحات خضراء من ذاكرات الشعوب الوطنية، وبدأت تقدم مفاهيم كبرى حول الحرية والتراجيديا على انها من فصول الرومانسية الآفلة.
فما كان محظوراً بشبه اجماع انساني أصبح مشاعاً وبلا أية خطوط حمراء، لأن الانسان المطلوب وفق هذه الثقافة هو مجرد رقم أصم أو مشجب لموبايل وحاسوب يجرانه من أنفه الى حيث لا يريد، فالبوصلة لم تعد بيده، وكذلك وعيه المصنوع والملفق من ميديا ماهرة في التضليل.
ان ثقافة الاستهلاك الاعلانية بكل دلالاتها البافلوفية التي تسيل اللعاب على صوت الجرس أو على مشهد السلعة على الشاشة لا يمكن لها أن تصنع وعياً مفارقاً للسائد أو فرداً يستعصي على الامتثال والقطعنة، فهو مجرد قطعة غيار، وانعكس هذا كله على شخصية الفرد الذي أصبح بلا ملامح أو خصائص جوهرية، ما دامت الفروق هي فقط في الطول والعرض والجاه الاجتماعي والمستوى الاقتصادي.
آثار هذه الثقافة التي حذر منها علماء نفس واجتماع وتربويون قبل عقود بدأت تتضح الآن، وما كان يحذر منه أمثال هربرت ماركيوز وويلهالم رايش وهو الانسان الصغير أو الانسان الأشبه بمسمار كان يبدو غريباً في ذلك الوقت وأحياناً مثيراً للاستنكار والاستهجان، لكنه الآن حقائق تسعى على أقدام، في المول والشارع وعلى الأرصفة.
في زمن كهذا يندر أن يكون للأبناء آباء من لحم ودم وذاكرة ووعي، فالأب هو العصر ذاته، كما قال المؤرخ مارك بلوخ، لهذا أصبح التشابه بين الأبناء مثيراً للقلق، ومن يدري؟ قد يفقدون آخر ما تبقى لهم من اختلاف وهو اسماؤهم عندما يتحولون الى أرقام في حاسوب!!
( الدستور )