دعونا نفهم: المعرفة جزء من الكرامة

طوال سنوات الأزمات الاقتصادية المتتالية، أثبتت الأحداث أن المجتمع الأردني يتمتع بمسؤولية عالية، وحالة من الانضباط الاجتماعي يندر وجودها. وهي الحالة التي عكسها الحراك الشعبي، رغم ضجيج الإضرابات وحركات الاحتجاج.
واحد من أسرار تفسير هذه الحالة، هو توفر حد ما من الكرامة التي يشعر بها الناس في العلاقة مع الدولة والنظام السياسي، وهي الحالة التي طالما افتقدتها أنظمة مجاورة. مدخل الكرامة الإنسانية، بأبعادها الاجتماعية والوطنية والفردية، موضوع واسع، وتتعدد فيه وجهات النظر. ولكن علينا قبل أن نسأل "هل تراجع شعور الأردنيين بالكرامة خلال الأشهر الماضية تحديداً؟"، أن نلفت الانتباه إلى أن الأمم المتحدة أعادت تعريف الكرامة الإنسانية في مطلع التسعينيات، وجعلتها أحد العناصر الأساسية في تعريف التنمية المستدامة، باعتبارها "أن يعيش الإنسان حياة أطول بكرامة"، بعيداً عن الجهل والمرض والإذلال، وبضمان للحقوق الأساسية، ومنها الحق في المعرفة. أكثر من تطور وحدث مسّ مسألة الكرامة العامة للمجتمع خلال العامين الماضيين، ولكن أياً منها لم يصب المركز الحساس للكرامة بطريقة مباشرة.
ومن هذه التطورات، تعثر مسار الإصلاح، والإصرار الرسمي على قانون الصوت الواحد رغم حالة شبه التوافق الوطني على تغييره، وعدم الأخذ بتوصيات لجنة الحوار الوطني، وتراجع مكانة القانون ودوره في الحياة العامة، واغتيال جهود اجتثاث الفساد، واستمرار منهج إعادة إنتاج النخب التقليدية..
كل تلك الوقائع أصابت الكرامة العامة، ولكن لم تصل بها إلى شعور بالإهانة. مسألة لقمة العيش للطبقة الفقيرة، واستغفال الطبقة الوسطى في معاشها اليومي، هي الأكثر حساسية اليوم في ملف الأزمة الاقتصادية ورفع الدعم عن السلع الأساسية. والسؤال: كيف نحول دون أن تصبح عملية رفع الدعم والأسعار مسألة كرامة عامة؟ بمعنى، هل من فرصة أن لا يصل إلى شعور الناس وإدراكهم الجمعي أن الدولة تستغفل المجتمع، وتمارس تزييف الوقائع والأرقام، ما يقود إلى الاستنتاج أن الدولة تريد أن تتخلص من أزمتها المالية على حساب جيوب المواطنين وتحديداً الفقراء، وهي الأزمة التي خلفتها سياسات من الفساد، في الوقت الذي لا توجد أي ضمانات بأن لا تتم إعادة إنتاج هذا الفساد مرة أخرى؟ المشكلة أنه في الوقت الذي تستعد فيه الحكومة لرفع الدعم عن بعض السلع، وعلى رأسها بعض المشتقات النفطية والكهرباء، في أجواء خطاب إعلامي رسمي نزق وانفعالي، تغيب الحقائق والمعلومات وسط حالة من الاحتقان الشعبي والتوجس والفوضى في المعلومات والتسريبات، وتحديدا أرقام الدعم والضرائب والهدر والفساد.
هل صحيح أن الحكومة تستوفي ضريبة مبيعات على بعض المشتقات النفطية، وفي مقدمتها البنزين (44%)؟ وأي دعم تريد أن ترفعه إذن؟ ولماذا أسعار البنزين وفاتورة الكهرباء لدينا أعلى من دول مجاورة غير نفطية، مثل لبنان أو تونس؟ وهل تجاوزَ الهدر المالي الحكومي 20% فعلا؟ وما هو الحجم الحقيقي للتهرب الضريبي؟ وهل بالفعل تقوم شركات الكهرباء باستيفاء كهرباء الشوارع والفاقد؛ أي تسديد سرقة الكهرباء من فاتورة المواطنين؟ قائمة أسئلة طويلة، تقابلها فوضى في الأرقام، فيما يغيب الرقم الرسمي المسؤول والمُقنع الذي يمكن أن تجد من يدافع عنه؛ ما يدخل الناس عملياً إما في فوضى التقديرات، أو في تصديق المعلومات غير الرسمية الصادمة، وفي الحالتين يقاد الشارع المتوتر إلى نتائج وخيمة. المعرفة جزء من الكرامة العامة. ومن حق الناس معرفة حقيقة الأوضاع الاقتصادية في أضعف الإيمان كما هي؛ فاستغفال الناس وسط فوضى المعلومات، وفي موضوع لقمة عيشهم، يمس الكرامة في الصميم.
( الغد )