بلفور في حفلة تنكرية!

كأن الفلسطينيين يعانون من فائض العدل الدولي ومن أعباء الكرم الاسرائيلي ومن سعة المساحة التي يطلبون أن تكون دولتهم. أقول كأنهم لرفضي التصديق ان الضحية تهدي جزءاً حميماً من جسدها للجلاد، وتعتذر اليه عما ألحقه عظمها بأنيابه من ألم.
لم يعد شر البلية يضحك، فالضحك ممنوع وعضلات الوجه وتجاعيده لم تعد تقوى على هذه المهمة العسيرة، فالوقت كله من رماد ودموع، أما الدم فلا شأن لمن عرضوه في المزادات السرية والعلنية به، لأنه قادر على تولي الدفاع عن الأجساد التي سال منها!
لقد حوّل العرب بعبقرية المهزوم الباحث عن النجاة ولو على خازوق انتصار اسرائيل في حربين -احداهما سميت نكبة والأخرى سميت فضيحة- الى استحقاق، وكما يقول علماء نفس واجتماع ومؤرخون فان الهزيمة لا تكتمل وتصبح أمراً واقعاً الا اذا اعترف بها المهزومون، فالانسان يُدمَّر ولا يُهزّم وتلك حكاية حفظناها منذ الصبا عن عجوز همنجوي، ذلك الصياد العنيد الذي اصطاد سمكة القرش بعد أن تحولت الى هيكل عظمي!
في ذكرى أسوأ وأدنأ وأرذل وعد في التاريخ، منح فيه من لا يملك لمن لا يستحق يحتفل العرب على طريقتهم، ويباركون الوعد تحت سطوة الوعيد.
ولو صدقنا الارشيف الأصفر في عواصم العرب كلها التي لم تعصم أحداً منهم لقلنا ان ما دفع من أثمان بعملة الدم الصعبة كان يكفي لتحرير كوكب بأسره، لكن الدم انتهى الى زقاق وثمة من رضي بمتر مربع يتسع لكرسي أو قبر لكنه لا يتسع لخندق!
لقد غنى الفلسطينيون عشية الرحيل والهجرة بحثاً عن أنصار.. ضرب الخناجر ولا حكم النذل فينا. وسرعان ما توارت الأغنية وكل ما يشبهها وراء قوائم الرواتب وفي الغرف السفلى للفيلات الباذخة التي تمت مقايضتها بالخيام، لكن مقابل وطن!
لقد انتهى الميثاق الوطني ذات خريف عربي في باريس الى كادوك، وقد تصبح القضية كلها من خليلها الى جليلها ومن كرملها الى رمل نقبها كادوك.. ولم يخطر ببالنا منذ لثغنا بأسها ونحن نحبو ونتهجى اسمها أنها بهذا السعر في أوكازيون العولمة، وان سلاسل جبالها يمكن ان تدخل من ثقب ابرة أو تضيع ككسر عشري في مقياس رسم!!
نعرف ان الله لا يكلف نفساً أكثر مما تطيق، لكنه يكلف شعباً مستباحاً أن يخلع الأبواب ويجترح معجزة الحرية، فلماذا التعجل أيها الحالمون بدولة حتى لو كانت ميكي ماوس.
ان من حق أي كائن سواء كان هندياً أحمر أو أسمر أو بالألوان ان يتشبث بحقه حتى القيامة، فالتاريخ ليس فقط انتصارا أو هزيمة، انه ايضاً هزيمة ظافرة وانتصار مثير للشفقة، وهذا ما دفع شلومو رايخ كي ينوب عنا ويقول ان اسرائيل ستظل تقفز من نصر الى نصر الى نصر.. باتجاه هزيمتها..
بعد الآن سينوب عنا يهود مضادون للصهيونية، وعندئذ يكون الطرد من التاريخ هو المرحلة الثانية بعد الطرد من الجغرافيا..
ان لدينا من أعباء الدّم وشقاء الذاكرة ما يكفي لأن نصمت، على طريقة فليسعد النطق ان لم يسعد الحال..
( الدستور )