الإصلاح من فوق

الاردن دولة فقيرة اقتصاديا لكنها غنية سياسيا؛ ومصدر الغنى السياسي مرتبط بدون شك ومنذ عقود برأس النظام السياسي. وفي ضوء هذه النتيجة التأسيسية وعلى خلفية أحداث الاحتجاجات الأخيرة وما يرتبط بها من أزمة سياسية واقتصادية، تطرح أسئلة أساسية:
هل حان الوقت لاستثمار الغنى السياسي الذي تتمتع به المملكة الرابعة في اقتراح علاج جذري للاختلالات البنوية في الاقتصاد السياسي للدولة بعيدا عن المهدئات والترقيع؟ هل حان الوقت لإصلاح المشاركة السياسية وبناء دولة لكل مواطنيها بإصلاحات سياسية ودستورية، تحسم من هو الأردني والعلاقة الأردنية الفلسطينية وتبني مناعة ذاتية ضد المشاريع المشبوهة. الاحداث الأخيرة لم تهز قناعة معظم الأردنيين بفكرة الإصلاح من فوق، ولكنها بعثت رسالة قوية صعدت من القاعدة الى الأعلى مفادها ماذا بعد؟ وخلاصتها أن سياسة شراء الوقت على الطريقة الأردنية قد استنفدت فرصها، وحان الأجل للبحث عن بدائل إصلاحية وطنية.
لم يظهر تصنيع الولاء مكشوفا كما ظهر هذه المرة في تسيير عشرات الوفود الرسمية والشعبية يوميا نحو المدينة الطبية لزيارة المصابين من رجال الدرك والأمن العام، فيما كان الإخراج الإعلامي باهت اللون والمضمون، حينما دفع بالناس لوصف الحراك الشعبي والمحتجين على رفع الأسعار بأسوأ الأوصاف. والدولة تعرف تمام المعرفة أن الذين اعتدوا على الممتلكات العامة وأحرقوا المحاكم وضربوا رجال الأمن ليسوا من الحراك الشعبي.
فكرة الإصلاح من فوق لم تسلم من النقد، ووصفت في السابق بأنها أداة استغلتها مجموعة الليبراليين الجدد الذين وصلوا الى مواقع تنفيذية في البلد خلال العقد الماضي لتبرير سياستهم في إفقار الدولة الأردنية والخصخصة وتفكيك القطاع العام، وتم في هذه المرحلة تغييب البرلمان ثم جيء ببرلمانات مزورة ومورست في كنف هذه المرحلة أسوأ أشكال الفساد وسرقة الدولة، ولكن كل هذا لا يبرر أن يفتقد هذا المنهج شرعيته، فما تزال أمامه فرصة، عنوانها إعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية.
عقدة الأزمة الأردنية في بعديها السياسي والاقتصادي لم تصل لأوجها بعد، ولن تُحل هذه المرة بوصول مساعدات عاجلة من الولايات المتحدة أو منح متأخرة من دول الخليج، ومعظم الأفكار التي طرحتها المعارضة التقليدية والجديدة للخروج من المأزق السياسي غير عملية أو تصطدم بمحددات دستورية وتشريعية أخرى، مثل الدعوة إلى تأجيل الانتخابات والتي تستدعي عمليا عودة المجلس السابق، وهذا بحد ذاته كارثة وطنية، أو الدعوة لإعلان حالة طوارئ ليوم واحد وكأن الدستور لعبة نطوعها كيفما نشاء.
إجراء الانتخابات في موعدها قد لا يكون الحل، لكنه بالمجمل سيكون جزءا من الحل، وعلى أقل تقدير سيوقف المزيد من التدهور، وهنا تبدو أهمية تفعيل (مبدأ الإصلاح من فوق)؛ فضمان أن تجرى الانتخابات بحد معقول من النزاهة لا يكفي وحده، ولا بد من تدخل النظام في المرحلة لحسم الأزمة ولو في بعدها السياسي من خلال رسالة ضمانات وطنية توجه للشعب الأردني، وتحدد برنامج إصلاح وطني مدته عامان، ينتهي بضمان إعادة تأسيس الدولة الوطنية الديمقراطية على أساس الحكومات البرلمانية ورفع القيود التشريعية التي تحول دون ذلك.
المشكلة كيف سندير العملية الانتقالية في ظل مؤسسات غير ممثلة لكافة القوى السياسية، هنا أيضا تبدو أهمية (الإصلاح من فوق) بتشكيل مجلس موازٍ لإدارة الحوار الوطني ومتابعة العملية الإصلاحية يكون نصفه من البرلمان المنتخب ونصفه الآخر من القوى السياسية والاجتماعية الخبيرة وغير الممثلة. إنفاذ فكرة الإصلاح من فوق مصلحة وطنية عليا ومصيرية ولسنا بحاجة إلى أن ندفع الثمن مضاعفا كي نصل إلى هذه القناعة."الغد"