حرب ناقصة أخرى!

كان هنري كيسنجر أول من تحدث عن مفهوم الحرب الناقصة، بعد حرب اكتوبر عام 1973 على الاقل بالمعنى الذي أراده، وهو ان ثغرة الدفرسوار العسكرية تحولت على الفور الى ثغرة سياسية مما أتاح لكلا الطرفين المتحاربين أن يعلنا الانتصار، كأنهما اقتسما بعد الثغرة انتصاراً واحداً، فكان لكل منهما نصفه، لكن نصف الانتصار يفضي بالضرورة الى نصف هزيمة، ولأن الهزيمة ككل فشل يتيمة وليست متعددة الآباء، فقد أنكرها الطرفان، ثم جاءت معاهدة كامب ديفيد لتقول في مغزاها الأخير ان ما حدث في تلك الحرب الناقصة هو توازن قوى ما دام هناك عبور لقناة السويس ورفع للعلم المصري مقابل ثغرة غيرت مسار الحرب.
فهل يمكن النظر الى عدوان اسرائيل على غزة والذي سمّي حرباً بسبب القذائف الصاروخية من الطرف المعتدى عليه على أنها حرب ناقصة؟ هنا لا ثغرات ولا دفرسوارات، بل ايقاف للهجوم البري الذي كانت اسرائيل تعد له منذ أسابيع، وتقول وسائل اعلامها انه وشيك الوقوع، لكنه لم يقع وانتهى المشهد بهدنة لا أحد يحزر مدى طولها أو قصرها.. ان عدم استكمال اسرائيل عدوانها بالهجوم البري هو نقصان بحد ذاته قدر تعلق الأمر بمفهوم الحرب الناقصة، يقابل هذا النقصان من الجانب الاسرائيلي توقف حماس عن اطلاق الصواريخ وضبط الفصائل الأخرى اذا حاولت ذلك.. ان يقف على منصة امام شعبه ويحتكر الانتصار ناسباً الهزيمة الى الطرف الآخر.
ومن أسرار الحروب الناقصة تعدد المنتصرين احياناً، وقدر تعلق الأمر بغزة والعدوان عليها فثمة عدة منتصرون على هوامش الحرب، الصاروخ الايراني الذي يصل الى القدس وتل أبيب منتصر لهذا حظي بالشكر والثناء من حماس رغم فتور العلاقة بينها وبين طهران بسبب الأزمة السورية.
والرئيس الجديد في مصر د. مرسي حظي هو الآخر بانتصار مزدوج، حيث أشادت بموقفه وزيرة الخارجية الامريكية، وكذلك قادة حماس اضافة الى نسبة من الشعب المصري الذي قارن بين موقف الرئيس الجديد والرئيس السابق مبارك.
وان كانت هناك في مصر نسبة اخرى قالت ان الرئيس مرسي استخدم وساطته لوقف اطلاق النار في غزة لتغطية مواقف محلية منها ما يتعلق بالدستور.
في الحروب الناقصة يكثر المنتصرون ويشح عدد المهزومين حتى يصل الى الصفر، لأن النقصان في أي حرب يجعل الأفق مفتوحاً لتأويل أسبابه، بعكس الحرب الكاملة التي تنتهي الى منتصر ومهزوم، فهي تسد الآفاق على كل تأويل أو حتى محاولة استدراك.
أما نتنياهو والثالوث اليميني الذي يقوده وينطق باسمه فهو يظن بأنه حقق انتصاراً سياسياً، عندما أطمأن على دفء معاهدة السلام مع القاهرة، وتأكد بأن النظام الجديد ليس على موعد دراماتيكي مع انقلاب جذري على هذه المعاهدة، وقد لاحظنا منذ عامين كيف تعاملت الصحف العبرية مع الحراك العربي، فهي ترصد موجاته بحذر وريبة، لكنها في الوقت ذاته تقنع نفسها بأن اليوم وربما الغد لن يكون غير البارحة، لأن الحراك الدبلوماسي وقوافل الساسة الى القطاع المقاطع لعدة أعوام قد يكون له صدى شعبياً وعاطفياً، لكنه على صعيد ميداني لا يقبل الترجمة الى قرارات حاسمة وصادمة لتل أبيب وحليفها الأكبر في واشنطن.
لكن هذا النقصان في الحرب وبمعنى أدق في العدوان لن يبقى كذلك، وغارات اسرائيل التي أعقبت الهدنة على خان يونس واعتقال عدد كبير من الناشطين في الضفة الغربية يضع الهدنة بين قوسين أو بين صاروخين.
( الدستور )