المال الانتخابي (وجلباب)التقوى
.jpg)
سألني احد الذين قرروا خوض الانتخابات النيابية القادمة(ان جرت بالطبع في موعدها المحدد): هل يجوز ان اؤجل دفع زكاة اموالي لموعد قريب من بدء الدعاية الانتخابية؟ كنت - بالطبع - ادرك انه يعرف الاجابة ، لكنني نصحته بأن يتوجه بالسؤال الى دائرة الافتاء العامة او الى احد فقهائنا الذين يثق بهم.
سؤال صاحبنا ذكرني بحادثة طريفة حصلت مع احد النواب في المجلس الاخير ، فقبل موعد الانتخابات بشهور تحرك وسط دائرته الانتخابية بشكل مفاجىء ، وتعمد ان يصلي كل فريضة في مسجد ما من مساجد البلدة ، وحين تنتهي الصلاة يتوجه فورا الى الامام ويسأله عن احتياجات المسجد على مسمع من المصلين ، ويدفع المطلوب ، ولأن الناس هناك - او معظمهم - لا يقبلون بيع اصواتهم بطريقة مباشرة ، قرر ان يستعين ببعض الشباب المتدينين ، واقنعهم بانه يريد ان يدفع زكاة امواله للفقراء والمحتاجين ، فاستجابوا له بحسن نية ، واعدوا قوائم بأسماء الاسر العفيفة ، وقدموا لها المبالغ التي دفعها المرشح باعتبارها زكاة ، وقد وعدهم بان هذه الزكاة ستدفع في كل عام في مثل هذا الوقت ، وحين حان موعدها في السنة التالية سألوه عن وعده فأجابهم بان ما لديه من مال لم يبلغ هذا العام النصاب.. وبأنه سيؤجل الدفع الى العام القادم.. او الى عام الانتخابات الجديدة.
قصة استخدام المال السياسي في الانتخابات وغيرها ليست جديدة ، لكن التغطية عليها بأقنعة دينية ، تحتاج الى اكثر من استدراك ، فأغلب الذين يتوسلون هذه الطريقة غير المشروعة هم من غير المعروفين بتدينهم ، بمعنى انهم لا يتذكرون الدين بما يحضّ عليه من صدقة وما يفرضه من زكاة وما يدعو اليه من تواصل الا في موعد الانتخابات ، وهم - بالتالي - لا يجدون - في مواجهة قواعدهم المتدينة اصلا - الا باب الدين لاستقطابهم والتأثير عليهم وكسب اصواتهم ، والاستدراك - هنا - يحتاج - اولا - الى فتاوى حاسمة تقرر استخدام المال السياسي ، سواء لدفع الزكاة في موعد الانتخابات او لشراء الاصوات ، وتحتاج الى تشريعات حازمة تجرّم الدافع والمدفوع له ، وتحتاج - ثالثا - الى احتشاد اجتماعي يأخذ شكل التوقيع على عهود اجتماعية يتبناها الناس ويتوافقون عليها لتحريم التعامل بهذه الطريقة واعتبار من يمارسها منبوذا وخارجا عن التقاليد الاجتماعية.
اقل ما يمكن ان يقال لمن يفكر باستخدام المال السياسي في شراء ذمم الناس واصواتهم: هذا حرام وعيب ، ولكن ماذا لو اضفنا لهذا الاستخدام المغشوش الاساءة لدين الله تعالى والتحايل على فرائضه ، وماذا لو اضفنا اليها الضحك على الناس واستغلال حاجاتهم ، وممارسة الكذب والوعود غير الصادقة؟
تلك بالطبع جرائم اخرى لا يجوز ان تمرّ بدون محاسبة ، ولا يجوز ان تبرر او تقبل تحت اي عنوان: ديني او اجتماعي او اقتصادي ، واذا كان من يستخدمها يقع تحت طائلة الرفض قانونيا واخلاقيا ودينيا ، فان من يقبلها من الناس او يساهم في تمريرها يفترض ان يقع تحت دائرة الرفض والادانة ايضا.
المال السياسي لا علاقة له بما ذكرنا من قيم دينية او اجتماعية.. واصحابه - بالطبع - لن تهزهم هذه الاعتبارات والنصائح والفتاوى ، لكن يهزهم - فقط - شيوع ثقافة الرفض والادانة والامتناع لدى الناس.. وحسبنا ان نبدأ من هنا ، فالدين بمقاصده ، وفرائضه ، اسمى من ان يوظف بهذه المسارب المغشوشة ، واصوات الناس اغلى من أن تشترى بزكاة غير مشروعة ، لن ينال الله دماؤها ولحومها ولكن يناله التقوى والمال السياسي لا يعرف التقوى اطلاقا.