في بيت الجمعية الأردنية للعلوم والثقافة

لقد حظيت بالمشاركة في عدة نشاطات قامت بها الجمعية الأردنية للعلوم والثقافة في عدة مناسبات وطنية، وكنت دائماً في كل مرة أشعر بمتعة الحوار الهادئ والمعمق الذي يجرى في أروقة الجمعية من قبل نخبة من الشخصيات الوطنية من مختلف التوجهات الفكرية والسياسية الذين ينضوون تحت هذه اللافتة التنويرية الهادفة التي تستقطب جمهرة من العقول والخبرات الأردنية، وأصحاب الشهادات العالية والتخصصات المرموقة.
في اللقاء الذي حدث معهم أمس أحسست بالسعادة الغامرة لأني أيقنت بعظم الجوامع ونقاط الاتفاق بين الأردنيين على الجملة، وأن قائمة النقاط المشتركة تفوق بالعدد والأهمية نقاط الاختلاف، وأن هناك مساحة واسعة للعمل المشترك بين النخب السياسية والثقافية والفكرية التي تسعى جميعاً نحو بناء الدولة الأردنية الحديثة، الآمنة والمستقرة والمزدهرة، التي تتسع لجميع أبنائها، بلا عنف وبلا تطرف وبلا تعصب وبلا إقصاء أو إبعاد، وعبر المنهج السلمي الحضاري البعيد عن الذهاب بالبلاد نحو الفوضى والدمار.
كان هناك إجماع من الحضور على قراءة معالم المشهد المحلي والإقليمي، وكان هناك توافق ملحوظ ومصرّح به حول تشخيص الأزمة التي يعاني منها الإنسان الأردني والإنسان العربي بوجه عام، وأننا نعيش ثمرة حقبة طويلة سادت العالم العربي امتزج فيها الاستبداد والفساد والتخلف، ومنظومة التربية والتعليم البالية التي أدت إلى تخريج أجيال متعاقبة عاجزة عن صناعة التوافق الوطني، وعاجزة عن النهوض الحضاري لبلدانها، وعاجزة عن حمل الرسالة وامتلاك أوراق القوة، فضلاً عن الانخراط في حمل الهم الوطني والإسهام في تطوير مؤسسات الدولة.
نقطة البدء ينبغي أن تكون بالاتفاق على إعادة بناء الإنسان الأردني والإنسان العربي، وإعادة صياغة العقل، القادر على التفكير بمنهجية علمية سليمة، و امتلاك ناصية المعرفة، وبناء منظومة القيم التي تشكل العمود الفقري للشخصية الآدمية المكتملة، وذلك من خلال إحداث ثورة معرفية عربية شاملة، وبناء الهوية الثقافية العربية الإسلامية الواضحة التي تجمع بين العلم والانتماء، والثقافة والأدب، والانفتاح والقيم والذوق والجمال.
إن القدرة على التعامل السياسي الحكيم، والقدرة على الإدارة وفن قيادة الجماهير، والقدرة على تنظيم المال والاقتصاد، والقدرة على خلق بيئة العمل المشترك التي تعظم الجوامع وتقلل أثر الخلاف، كل ذلك يمثل ثمرة ومخرجات منظومة التربية والتعليم ومنظومة البحث العلمي ومنهجية صياغة العقل الجمعي.
كانت ملامح التوافق واضحة على ضرورة معالجة مظاهر الانقسام المجتمعي الحاد، الذي تقوده الأحزاب والقوى السياسية العاملة والمؤثرة في الجماهير والأتباع، إذ يجب البحث عن المبادرات التي تقود الحوار الجدّي والمسؤول بين مختلف الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي، وتحول دون التخندق حول المواقف السياسية والتمترس خلف الآراء الأيدولوجية التي تعظم مساحات الخلاف وتبني جدران الكراهية والبغضاء وتعصف بمنجزات الأجداد وتراثهم.
كان التركيز الأشد وضوحاً حول الفهم الحقيقي للإسلام، فهو روح وجوهر، وبناء داخلي وقيم ومبادئ، أكثر من كونه شكلاً ومظاهر وزينة وادعاء، وهو عامل من عوامل الوحدة والتقارب والتسامح والتراحم والتغافر والتعارف والتعاون بين مكونات المجتمع وأفراده، وليس عاملاً من عوامل الفرقة والشرذمة والتباغض والتعصب والحقد والضغينة والفظاظة والغلظة وسوء الخلق، فالإسلام يمثل الهوية الجامعة للأمة الذي يرسي معايير العدالة، ويقدر الكفاءة ويعترف بموازين القوة والأمانة لموقع المسؤولية، والحفظ والعلم لموقع الإدارة بعيداً عن كل معايير التعصب العرقي أو الجهوي أو المذهبي أو النسبي.
الاختلاف في الرأي هو ثمرة من ثمرات اجتهاد العقل البشري، وهو موجود في كل المجتمعات وفي كل الأزمان والأماكن، ولا تستطيع قوة في الأرض إزالة الاختلاف أو إنهاءه، ولكن نستطيع أن نعترف بالاختلاف و نتعامل معه بطريقة حضارية سليمة، توجه الخلاف وتنظمه، وتجعل منه عامل قوة وثراء للمجتمع، من خلال إقرار التعددية السياسية والفكرية والدينية والمذهبية التي تحتكم إلى مرجعية قيمية عليا، تحفظ الوطن وتصون المصلحة العامة، وتعلي من شأن الكرامة الإنسانية وتصون حرّيته وتحفظ حقوقه، بلا تمييز ولا حيف ولا تعسف .
( العرب اليوم )