اليابس .. واليابس أيضاً!!

هناك عبارات نرددها في حياتنا اليومية بمعزل عن دلالاتها ولمجرد أنها عادات لفظية، منها ما يأتي على الاخضر واليابس، وكأن هناك لا يزال شيء أخضر يأتي عليه الخطر أو التصحر، فما هو قادم في الطريق ليس برابرة جعلنا الضجر والفراغ ننتظر قدومهم عند البوابات وتحت الأسوار، وانما أعاصير اجتماعية وسياسية وانتقامية، اضافة الى ما ننوء به من حمولة الثأر والنكاية، لهذا أضحكنا ذلك المحلل الذي قال بالأمس أن بلاده تتعرض لأخطار كبرى وقد تأتي على أخضرها ويابسها، ناسياً أو متناسياً أنها تحولت الى هشيم يكفي لعود ثقاب واحد أن يحولها الى رماد.
ونقول أيضاً من باب العادة والتكرار اشتدي أزمة تنفرجي، لكن الأزمات سخرت منا ومن فعل الأمر الأخرق الذي أصدرناه اليها، فانفجرت ولم تنفرج، والحبل على الجرار!
ومنذ الاستقلال وشبه الاستقلال الذي عاشه العالم العربي والوليمة هي الأخضر سواء كان عشباً أو شجراً أو كتاباً أو عافية، وقد تحالف على قضم هذا الأخضر ذوو القربى والأباعد، وتعاملنا مع أوطاننا كما لو كنا نحتلها ونهدد بالرحيل عنها، لهذا صدق المثل الشعبي المصري الذي يقول اذا سقط بيت أبيك فأظفر منه ولو بطوبة!
كنا ولا نزال جرحى، سواء في الهويات أو الذاكرة والوجدان، لأن النشيد القومي به بحّة حزن مزمنة، والحرية ناقصة، وكذلك المواطنة، حيث لا يزال مفهوم الرعايا يمارس نفوذه سراً وعلانية لكن من وراء ستار.
أين هو الأخضر الباقي بعد كل هذا التصحر الذي التهم الزرع وأتى على الضرع؟ ما دام الفلاح العربي يأكل الآن ما تجود به المعلبات المحفوظة القادمة من أقاصي آسيا؟
وأين هو الأخضر في حدائق كانت ذات يوم أشبه بالرئات للمدن المختنقة ثم سحقها الحجر والاسمنت، وأصبح الناس كالسردين الذي تقطع أعناقه في علب أشبه بالتوابيت المعدنية الصغيرة؟
وبالرغم من ذلك ما زالت الببغاء تقول كل صباح.. هناك أخضر ويابس، أو اشتدي أزمة تنفرجي، ان هذا الانقطاع بين الكلام ودلالاته هو سمة مرحلة انحطاط تصبح فيه اللغة أشبه بالمغنية الصلعاء كما في مسرحية يونسكو اللامعقولة، وتتحول الى أداة لتعميق سوء التفاهم، بحيث يستعيد الصمت بلاغته واعتباره ويصبح أجدى!
كم من الأخضر أكل التسلح الاستعراضي الذي يلبي حاجة أسواق لمصدريه وصانعيه ولا يلبي أي دفاع؟
وكم أيضاً من هذا الذي يقال بأنه لم ييبس بعد ضاع في الانفاق السفيه الذي اثار سخرية العالم من العربي مما دفع رسام كاريكاتير أوروبي الى رسم سجادة صلاة هي عبارة عن ورقة دولار كبيرة.
ما نخشاه بعد ضياع الأخضر أن يصبح اليابس وقوداً للحمنا ولحم أطفالنا، فالغزاة لم يعفوا حتى عن روث البهائم وعن رميم الموتى وعن الزعتر البري الذي ينبت في شقوق الصخر ليقولوا بأنه الشاهد على تاريخ أسطورتهم.
ما سيأتي لن يجد الأخضر، وقد لا يجد اليابس أيضاً بعد أن تحول الى هشيم!!
( الدستور )