صنفان من القطاع العام: "سوبر" و"بلدي"

منذ عشر سنوات أو يزيد، نشأ في البلد صنف جديد من القطاع العام يختلف كلياً عن القطاع العام الذي نعرفه من خلال الوزارات "التقليدية" وما يتبعها من مسميات مثل: الدوائر والمديريات والأقسام والشُّعَب، المنتشرة في شتى المدن والبلدات.
القطاع العام الجديد شيء آخر، هنا لا يحبون تلك التسميات، ويفضلون عليها أسماء أكثر "نغاشة"، مثل الهيئات والمؤسسات والمفوضيات والصناديق والمجالس، وفي عدد من الحالات قد يتسامحون مع تسمية تقليدية مثل "شركة"، لا سيما إذا كانوا ينوون بناء قصة نجاح بين القطاعين بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني... "تشبيك" يعني، حسب الكلمة المستخدمة.
القطاع العام "السوبر" يدخل في تفاصيل المجتمع: الشباب والمرأة والطفل والمعاقين والتنمية والفقر والابداع والفن والحرفة والانتاج والانجاز والتميز، وهناك عدد لا ينتهي من التسميات حسب الطلب.
تقع مباني القطاع العام "السوبر" في مواقع "سوبر" أيضاً. وفي داخلها المشهد مختلف بالتأكيد، سوف لا تجدون الجدران المطلية باللون الرمادي، ولا حاجة هنا الى "زنار دهان زياتي" على مستوى الكتف لتسهيل التنظيف، فمرتاد القطاع العام "السوبر" لا يضطر الى الارتكاز على الجدران، فهناك متسع في المقاعد ذات الأربعة أرجل المثبتة في مواقعها والمنجدة جيداً والنظيفة، ومن المؤكد أنك هنا لن تحتاج لممارسة فولكلور "التخبيط على المؤخرة" بعد النهوض.
في القطاع العام "السوبر"، لا يوجد تزاحم ولا ترى مراجعين يدخلون ويخرجون حاملين ملفاتهم، وأنت هنا لا تصادف موظفاً يقول لك: "معاملتك بدها طوابع"، وعند خروجك لجلب طوابع، سوف لا يقابلك عامل بوفيه مبلل الأيدي ويسألك: "طوابع؟".
هنا لا تتوزع المكاتب على الممرات الطويلة المعتمة، ولا حاجة لعبارات مثل: "ثالث مكتب على اليمين" أو "يمين شمال وبوجهك لآخر الممر"، او "بعد سلة الزبالة أجلّك الله". هنا يحبون العمل في الأجواء المفتوحة open atmosphere ، فيصممون مكاتبهم بمساندة القواطع الزجاجية partitions ويحرصون على لفظ الكلمة بالانجليزية، وهذه "البارتشنز" تتغير باستمرار؛ يدخل المدير الجديد ويقول: "غيروا كل البارتشنز"، فتتغير فوراً.
هنا لا تصادف موظفاً يقول لك: "شو بَدّك"، ولا يوجد من يوجّه لك على سبيل التمويه على ضيقه منك السؤال الشهير: "خِدامِه خيّوه؟". في القطاع العام "السوبر" لا تسمع سوى كلمات مثل: excuse me أو sorry أو please اللتي تتكرر دوماً مع ابتسامة نموذجية، ولكن عليك أن لا تدقق في الوجه الذي يحمل هذه الابتسامة وخاصة إذا كنت من الباحثين عن صدق الانفعالات.
السكرتيرات.. يا الله يا السكرتيرات! أصلاً في القطاع العام "البلدي" لا توجد سكرتيرات بمعنى سكرتيرات يعني. أما هنا في القطاع "السوبر"، فالسكرتيرة تسيطر على كامل المشهد المحيط بها، إن صوت ارتطام حذائها المهيب فوق البلاط الرخامي المصقول يجبرك على أن ترتدع في جلستك إذا كنت جالساً، وعلى أن تتهيأ إذا كنت واقفاً.
الهدوء سيد الموقف في القطاع العام "السوبر"، الهمس يكفي، ولا تسمع صريراً لأي باب، فالأبواب الرئيسية تفتح وتغلق وحدها، أما الأبواب الداخلية فتنغلق خلفك وحدها ببطء وحنو، وإذا حاولت إغلاق الباب بنفسك، سوف تواجه ابتسامة من نوع جديد، رغم أنك تقوم بذلك على سبيل مجاملة الهدوء المسيطر حولك.
بالفعل وبلا شك؛ إن كل شيء مختلف في القطاع العام "السوبر"، حتى في المنتوج النهائي: ففي القطاع العام "البلدي" الذي تعرفونه يعثر الناس مع ما يعثرون، على قدر معقول من الخدمات العامة في الصحة والتعليم والأمن والثقافة والنظافة وغير ذلك حسب الاختصاص، أما في القطاع العام "السوبر" فالأمر مختلف جداً.. هنا النتيجة لغاية الآن "صفر".. عفواً إنها "سوبر صفر". ( العرب اليوم )