لكي نتجاوز هذه «السيولة» المفزعة!

التحذير من حالة “السيولة” التي انتهينا اليها بعد عامين على “معمعة” الصراع حول الاصلاح وملفاته أصبح أمراً واجباً، لا أتحدث -هنا- فقط عن “السيولة” السياسية التي انحدر بسببها مستوى النقاش بيننا الى درجة “الشتم” والاسفاف في الانتقاد والتجريح في الاشخاص، وانما -أيضاً- السيولة الاجتماعية التي شاهدنا “حلقاتها” في جامعاتنا التي عاد العنف ليضرب فيها من جديد.
حين ندقق في مجالنا “السياسي” سنكتشف أننا أمام “سيولة” مفزعة، فثمة اجتراء من قبل البعض على “تقاليدنا” السياسية، ومحاولات لتكسير صورة “مؤسساتنا” واشتباكات غير مفهومة بين “النخب” وتشويه مقصود لكل شيء، وثمة خطاب “مبتذل” (آسف لاستخدام الكلمة) تحول -فجأة- الى خطاب مقبول، وجرى تعميمه بصورة غير لائقة، حتى وصل الى حدّ الاساءة للناس، وللذات، وللآخر، سواء كان خصماً سياسياً أو دولة شقيقة.
ما حدث في بعض مؤسساتنا مؤخراً عكس جانباً من هذه “السيولة” السياسية، فلأول مرة نسمع كلاماً مؤسفاً من قبل بعض نخبنا المسؤولة عن “اشقائنا” العرب لدرجة تثير غضبهم، لا أدافع -بالطبع- عن أحد، ولا اتحفظ على ضرورات “الاختلاف” السياسي مع أي طرف، ولكن ما الذي يمنعنا من “الالتزام” باللباقات “السياسية” في مخاطبة الآخرين، وما الذي نحصده من هذه “الاشتباكات” غير المفهومة سوى مزيد من الاعداء والخصوم.
مخرجات “السيولة” السياسية دفعت البعض الى تجاوز أصول وأدبيات وأخلاقيات الخصومة، فسمعنا من بعض الأشخاص كلاماً لا يليق عن آخرين، وسمعنا “اعترافات” مخجلة من قبل بعض الذين صحت ضمائرهم، وليتها لم تصحُ، عكست ما تعرضت له نخبنا، وكذلك مجتمعنا، من ضربات موجعة أضرت بقيم الصدقية والمسؤولية، وأفقدت الناس ثقتهم بكل شيء.
في مجالنا الاجتماعي -أيضاً- رأينا ما حدث في جامعاتنا، فقد عاد “الطلبة” الى ميدان العنف, وتحولت الجامعات التي يفترض أن تكون “منابر” للوعي والاستنارة الى حلبات “للضرب” والقتل، لم يحدث ذلك صدفة، وانما ثمة أسباب كثيرة (نعرفها جميعاً) دفعتنا جميعاً الى الانحدار بخطابنا وممارساتنا الى درجة مخيفة، والى إفراز أسوأ ما فينا من سلوكيات.
لم يعد بوسعنا -وسط حالة السيولة- أن نفرق بين المجرم والضحية، ولا بين الصحيح والخطأ، ولا بين ما يجوز سياسياً وما لا يجوز، ولم نعد قادرين على “الحركة” والتقدم للامام، أو وقف قطار “العبث” الذي انطلق بسرعة جنونية.
تصور لو أننا استثمرنا العامين المنصرمين، بما حفلا من حماس للاصلاح، وانضباط في المطالبات، وروح جديدة سرت في شرايين المجتمع، ورغبة في التصالح مع الذات ومع الآخر.. هل ستكون صورتنا اليوم كما نراها في مرايا مؤسساتنا وجامعاتنا وفي شوارعنا أيضاً؟.
بدل أن نلوم بعضنا، يجب ان ندقق فيما أصابنا من ارتباك، وما انتهينا اليه من تيه وحيرة، ولن نتمكن من ذلك إلا اذا تجاوزنا حالة “السيولة” هذه، وفتحنا أبوابنا للحوار، وقنواتنا السياسية لمرور “المياه” الراكدة، وعقولنا للتفكير في الحال والمصير، وقلوبنا لطرد ما تراكم داخلها من أحقاد وضغائن وسوء فهم.
أرجو أن نكون جادين في ذلك، قولوا: آمين؟. ( الدستور )