جديد ميتشيل وقديمنا
يجول السيد جورج ميتشيل في عدد من عواصم أوروبا والشرق الأوسط ، عارضا "سلة أفكار" لا ترقى إلى مستوى "المبادرة الكاملة" ، والأرجح أن الرجل وهو يصغي إلى ملاحظات من يتلقيهم من قادة وزعماء ، يسعى لوضع اللمسات الأخيرة على "خطته الخاصة" لاستئناف المفاوضات وإحياء عملية سلام "ذات مغزى".
لسنا نعرف بعد ، ما الذي تحتويه جعبة الموفد الأمريكي الخاص لعملية السلام ، بيد أن الكثير من التسريبات التي سبقت جولته الحالية وصاحبتها ، وبالأخص ما يصدر منها عن مصادر إسرائيلية سياسية وإعلامية ، يكفي لتشكيل صورة "شبة تامة" عن هذه الأفكار ـ المبادرة ، فالرجل كما يقال يريد استئنافا فوريا للمفاوضات على أن يبدأ طرفاه ببحث قضية الحدود ، محددا خط الرابع من حزيران 1967 كأسس لترسيم الحدود ، مع استعداد لتبادل أراض بنفس الكمية (لا ندري عن النوعية) تلبية لحاجات إسرائيل الأمنية والاستيطانية من جهة ، وضمانا لحصول الفلسطينية على ما يعادل مساحة الضفة الغربية من جهة ثانية.
الدولة الفلسطينية تحتل مكانة متميزة في خطة ميتشيل والجهد الدولي المبذول الآن لإحياء عملية السلام ، بيد أنها دولة مقيّدة بسلاسل الأمن الإسرئيلي واشتراطاته وضوابطه ، دولة قد لا تلحظ عودة جميع القدس الشرقية لمظلتها وسيادتها (الناقصة على أية حال) ، دولة ستخضع لترتيبات أمنية وعسكرية شديدة القسوة ، دولة لن تكون حرة في استقبال من تريد ومنح جنسيتها وإقامتها لمن تشاء حتى من أبنائها الفلسطينيين ، دولة سيتعين على الفلسطينيين دفع ثمنها الباهظ من "كيس اللاجئين" و"حق العودة".
هذه هي نقطة بداية المفاوضات وسقفها عند ميتشيل ، وهذا هو أقصى ما استطاع الرجل الحصول عليه من الإسرائيليين كما يقول هو بنفسه لمحديثه العرب والأوروبيين ، وعلى الفلسطينيين أن يدخلوا المفاوضات وهم مدركون لهذه الحقيقة ، وبعد أن يتخلوا عن "شرط تجميد الاستيطان" ، فهذا أصبح من الماضي الآن ، فيما الهدف الثاني لجولة ميتشيل الراهنة هو: "حشد الضغوط" العربية والأوروبية على السلطة والرئاسة لثنيها عن "شرطها" والتحاقها بمائدة المفاوضات التي يجري إعدادها بمنتهى العناية والجدية.
طبعا ، من حق الفلسطينيين ، وفقا لميتشيل ، وحتى وفقا لنتنياهو ، أن يطرحوا ما شاؤوا من مواضيع على مائدة المفاوضات ، بيد أنه ليس من حقهم أبدا اعتبار أي منها "شرطا مسبقا"... وفي المقابل من حق الإسرائيليين طرح ما يشاؤون من مطالب وموضوعات على المائدة ذاتها ، بيد أنه ليس من حقهم أيضا اعتبار أي منها "شرطا مسبقا" ، وسيترك حسم المسائل جميعها برسم المفاوضات والمفاوضين ، وبقية "الحكاية" معروفة للجميع ، بعد أن مضى على نقطة انطلاقتها من مدريد ما يقرب من العقدين من الزمان ، جرى خلالها غرس مئات المستوطنات والبؤر الاستيطانية ، تضم أزيد من ربع مليون مستوطن ، يقيمون على أراضي الدولة الفلسطينية العتيدة ، و"الحبل على الجرار".
من حق الفلسطينيين أن يخشوا "تجريب المجرّب" ، وأن يحذروا "لدغات الجحر الإسرائيلي المتكررة"... من حقهم ان يطالبوا بضمانات وأن يضعوا "اشتراطات مسبقة" وأن يشرعوا في إعادة صياغة "مرجعية المفاوضات" فأخطر ما يمكن أن ينتهي إليه الوضع الفلسطيني برمته ، هو الدخول في جولة جديدة من "المفاوضات العبثية" وما يصاحبا من رواج لـ"تجارة الوهم" وانتعاش لـ"سوق الآمال الكاذبة والزائفة" ، والمرحلة المقبلة كما تشير كافة الدلائل ، حبلى بالضغوط متعددة المصادر والجنسيات ، ومواجهتها بحاجة لجبهة وطنية فلسطينية متحدة ، صلبة ومتراصة ، وعلى قاعدة برنامج وطني واضح المعالم يجمع بين مقاومة راشدة ومفاوضات رشيدة.
الدول العربية والغربية على حد سواء ، بمن فيها الولايات المتحدة ، سقطت في اختبار "إرغام إسرائيل" على تجميد الاستيطان بجميع أشكاله ، حتى لفترة زمنية محدودة جدا ، لا تتعدى الخمسة أو الستة أشهر ، والدول العربية والغربية على حد سواء ، بما فيها الولايات المتحدة ، تعجز عن "إقناع" إسرائيل بعرض "جوائز ترضية" على الرئيس عباس نظير تخليه عن "شرط تجميد الاستيطان" ، من نوع فتح المؤسسات في القدس وإعادة تشغيل "بيت الشرق" ، ما دفع هذه الدول لـ"تجريب" ممارسة الضغط على السلطة الفلسطينية ، عملا على ما يبدو بمثلنا الشعبي الذائع "إللي ما بقدر على الحمار بنط ع البرذعة" ، وقد يصل الأمر حد تحميل السلطة وزر فشل هذه الجولة من محاولات إحياء عملية السلام وجهود استئناف المفاوضات ، تماما مثلما حمّل الرئيس الراحل ياسر عرفات عن غير حق ، وزر فشل كامب ديفيد ومفاوضات اللحظة الأخيرة في طابا بعدها.
مثل هذه المخاوف الجدية فعلا ، والخطرة فعلا ، لا ينبغي أن تقودنا إلى الاستنتاج الخاطئ: الالتحاق بالمفاوضات ، أي مفاوضات وبأي ثمن ، فتلك طريق التصفية المحققة لحقوق شعب فلسطين وتطلعاته الوطنية المشروعة... مثل هذ المخاوف يجب أن تبعث على التفكير "خارج كتاب أوسلو والمفاوضات حياة" ، فـ"جديد ميتشيل" لا يواجه بقديم التكتيكات والسياسات والمواقف ، بل بالبحث عن استراتيجيات جديدة ، تبدأ بتجديد الائتلاف الوطني الفلسطيني تحت راية منظمة التحرير وبمشاركة الجميع من دون مناكفة أو استنكاف ، وعلى قاعدة برنامج وطني جامع يستنهض الطاقة الكفاحية لشعب فلسطين ، فحرب الاستقلال الفلسطينية الممتدة لمائة عام أو يزيد ، ما زالت أبعد من أن تضع أوزارها ، وهذه حقيقة مرة بلا شك ، بيد أنها الحقيقة الوحيدة على ما يبدو.