هل ضقت ذرعا بالشاشة الصغيرة؟!

منذ أمد غير قصير، لاسيما بعد انفجار ثورة الاتصالات، لم يعد جهاز التلفزيون مجرد ضيف دائم في المنزل، أو نافذة صغيرة تطلّ منها على عالم واسع. فقد تحول هذا المخلوق الصناعي مؤخراً إلى عضو من أعضاء الأسرة، ثم صار أهم ركن من أركان العائلة الصغيرة، تنشدّ نحوه الأبصار باهتمام، وتصغي إليه الأسماع بانتباه؛ الأمر الذي بات فيه التلفزيون مهيمناً على جلسائه، حتى لا نقول إنه صار المتحدث الوحيد طوال السهرة المسائية.
فما العمل كي تتحرر بعض الشيء من هذا الطارئ على حياتنا العصرية؛ المستبد بنا عن طيب خاطر؛ السارق الظريف لأوقاتنا من دون مساءلة؟ وكيف لنا أن ندرأ عن قلوبنا كل ما يغشاها من هم وغم يتسللان عبر الشاشة إلى النفوس ببراعة، أو نتلافى ما يقتحمها في أكثر الأحيان بفظاظة؛ خصوصاً ونحن لا نملك الكثير من الخيارات الأخرى أمام هذه الآلة الساحرة، التي غدت صلة وصلنا المفضلة بالعالم من حولنا، ومنبع الأفراح الصغيرة في ليالينا الطويلة المكفهرة؟
ولعل السؤال الافتتاحي هو: هل هناك أساساً من يضيقون ذرعاً بالتلفزيون، وفيه كل ما فيه من قنوات فنية وإخبارية ورياضية ودينية متنوعة لا حصر لها؟! ثم، هل هذا السؤال، المتبوع بعلامتي استفهام وتعجب، يخاطب سائر المتلقين لكل هذا الفيض الهائل من الصور والأخبار والبرامج، أم أنه سؤال يخص فئة عمرية وشريحة ثقافية بعينها، تتنقب الأحداث والتطورات الجارية، وتنفعل بالوقائع المتلاحقة، كي تجلب لنفسها بنفسها كل هذا الغم من دون طائل، وكل هذا الهمّ مجاناً؟
أحسب أن قطاعاً واسعاً من الكتّاب وقادة الرأي العام والمسؤولين، ومن في مستوى وعيهم واهتماماتهم، هم أكثر المشاهدين التياعاً بما تبثه نشرات الأخبار المسائية، وأنهم أشد المتلقين تبرماً بما يتدفق من حوارات ومناظرات سياسية، بعضها أقرب ما يكون إلى صراع الديكة. وبالتالي، فإن هذه السطور تكاد تكون موجهة كلياً إلى هذه الفئة الاجتماعية، التي لا تستطيع الفكاك من أسر التلفزيون، رغم أنها أكثر الناس تبرماً من محتواه الإخباري، وأعمقهم رغبة في هجر شاشته الملونة؛ لو كان في وسعهم ذلك.
لتخفيف وطأة السيل العرم من المشاهد المؤذية، المتزاحمة على حدقة العين وحجرات القلب كشهب مغيرة، ولاتقاء شر وقع الأنباء المنهمرة بضراوة على رواق الروح كل ليلة، يمكن للمرء أن يتحايل على نفسه قليلاً، وأن يقوم بقدر من التكيّف مع هذه الضرورة التلفزيونية ومع سطوتها الباغية، من خلال عملية اختيار مدروسة لبعض القنوات، وانتقاء ما يروق للنفس من برامجها بعناية، وربما شطب بعضها الآخر من القائمة المفضّلة، وأخيراً مقاطعة ما تتسابق تلك القنوات على بثّه من مشاهد الذبح والصلب، تلك التي لم يعد لها متسع في القلوب الموجَعة.
على سبيل المثال، فقد عمدت، شخصياً، إلى الامتناع عن ملاحقة التطورات الليبية التي أعادت البلد إلى عصر ما قبل الدولة، وما فاض من صراع الميليشيات هناك من عبثية غير مفهومة. كما نأيت بعيني عن التطورات الجارية في اليمن مؤخراً، التي أعادت البلد السعيد إلى زمن القرون الوسطى، ناهيك عما حفلت به الانهيارات من أسئلة ظلت بلا أجوبة؛ وكأن لسان حالي كان يقول لي: ألا تكفيك اللواعج الفلسطينية؟ وهل فيك موضع لسهام أخرى، بعد كل ما انغرز في وجدانك من حراب الفاجعة السورية، وشقيقتها العراقية؟ ألا تترفق بنفسك قليلاً، وتنسل بها بعيداً، ولو لبعض الوقت، عن هذا الخضم من الأخبار والصور المروعة؟
هكذا، فإنه يمكن للمتابع مثلي، ومن ينشغل وإياي بالهموم اليومية والاهتمامات العامة، أن يقوم بمثل هذه المواءمة الصعبة مع ضرورات المهنة ومقتضيات الحياة السياسية، على نحو لا يموت فيه الذئب ولا تفنى معه الغنم؛ بحيث يظل التلفزيون مصدراً من مصادر العلم بالشيء، وجسراً للتواصل مع المحيط الواسع، من دون استغراق غير محمود في بحر المجريات العاصفة، أو الاستسلام لكل ما يفيض عن شاشته من مشاهد مروعة وحوارات مثيرة، لا تقدم في المحصلة الأخيرة سوى القليل من الفائدة، مقابل كل ما تجلبه من التياعات شديدة.
الغد 2014-11-14