ما بين السياسة والتاريخ
السؤال الكبير الذي ما يزال صداه يدوى في الفضاء المصري منذ أعلن حكم البراءة في قضية قتل المتظاهرين هو: من الذي قتلهم إذن؟ ــ وبعدما رفع شعار «البراءة للجميع» فإن من حق كل أحد أن يسأل: إذا كان هؤلاء كلهم لم يرتكبوا جرما يحاسبون عليه بحق البلد طوال 30 عاما، فلماذا كانت الثورة إذن؟
لم أستغرب ان يمثل السؤال عناوين صحف الصباح أمس، في حين كان عنوان جريدة الأهرام تعبيرا عن الأزمة التي خلفها الحكم والحرج الذي استشعرته السلطة بسببه. ذلك أن الجريدة تجاهلت خبر البراءة، وكان العنوان الرئيسى للصفحة الأولى كالتالى: محكمة الجنايات تفضح نظام مبارك! كأنما أرادت أن تتستر على عورة البراءة، وان توجه الاهتمام نحو فضح المحكمة للنظام المذكور.
الحكم الذي صدر له أبعاد تتجاوز إخلاء سبيل المتهمين وغسل أيديهم مما جرى، ولكنه يبرئ النظام الذي حكم مصر طوال ثلاثين عاما، ولا يجد وجها لمؤاخذة رموزه أو محاسبتهم على الجرائم والكوارث التي حلت بمصر خلال تلك العقود الثلاثة، والتي أعادتها عشرات السنين إلى الوراء. في الوقت ذاته فإن تبرئة مبارك وأعوانه تفتح شهية الذين تباروا في التنديد بثورة 25 يناير واعتبارها مؤامرة مدبرة من الخارج، ومنهم من اعتبر ان المجرمين الحقيقيين هم الذين قاموا بالثورة التي أدت إلى الإطاحة بأولئك «الأبرياء» في سياق المخطط الذي قيل انه وضع لإسقاط الدولة المصرية. من هذه الزاوية أزعم بأن البراءة أعادت الشرعية إلى نظام مبارك وردت اعتباره.
رغم ان البراءة تعيد طرح السؤال عن «الطرف الثالث» الذي أطلق النار على المتظاهرين خلال أحداث الثورة عام 2011 إلا أن المصادفات وفرت لنا نموذجا للإجابة يربك المشهد نسبيا. فقد شاءت المقادير ان تطلق الشرطة نيرانها على المتظاهرين المحتجين في نفس اليوم الذي أعلن فيه حكم المحكمة. وفي آخر النهار طالعنا أسماء ثلاثة من قتلى ذلك الغضب هم رامى أحمد عبدالعزيز الذي تلقى رصاصة استقرت في رئته اليسرى وسببت له نزيفا حادا أدى إلى وفاته. ومحمد عامر الذي يبلغ من العمر 14 عاما قتلته رصاصة أخرى ــ وتامر صلاح عبدالفتاح (26 سنة) الذي تلقى 6 طلقات نارية في العين والرقبة والصدر أدت إلى مصرعه.
ما جرى يوم السبت أعاد إلى الأذهان أحداث الثورة المبكرة واشتباكات للشرطة مع المتظاهرين، التي أدت إلى سقوط نحو ألف قتيل غير آلاف الجرحى والمصابين، وهو ما نسيه البعض أو تناسوه، مع فارق أساسى هو أن أحداث عام 2011 أثارت نوعا من البلبلة لبعض الوقت جراء انكار الشرطة الاتهامات التي حملتها بالمسئولية عن القتل والقنص، ثم جرى الترويج لسيناريو آخر بعد عزل الدكتور محمد مرسى وجد ضالته في اتهام حركة حماس وحزب الله. وتولى الإعلام تسويق ذلك الاتهام حتى تحول إلى أحد المسلمات التي انطلقت منها مواقف وأحكام عدة، أدت إلى تبرئة ضباط الشرطة في أكثر من 40 قضية اتهموا فيها بقتل المتظاهرين. إلا أن ما جرى في القاهرة يوم نطق الحكم بالبراءة أعاد إلى الأذهان ذلك الدور الذي جرى اخفاؤه والتستر عليه، خصوصا انه أصبح من التعذر اتهام حماس وحزب الله بقتل المتظاهرين لا في يوم السبت الماضى ولا في مختلف الأحداث التي تلاحقت خلال السنوات الثلاث التالية.
اتصالا بما سبق، فإن تبرئة المحكمة لقيادات الشرطة من جرائم قتل متظاهرى الثورة عام 2011 يؤيد موقف الإنكار الذي عبر عنه قادة الشرطة طول الوقت وجرى ترتيب بقية الخطوات انسجاما معه، في حين ان لجنة تقصى الحقائق التي تعاملت مع الملف في تلك المرحلة، قدمت شهادة دامغة أكدت مسئولية الشرطة عن القتل. ومعروف ان اللجنة رأسها المستشار عادل قورة الرئيس الأسبق لمحكمة النقض وضمت عددا من كبار رجال القانون وعلماء الاجتماع إلى جانب عدد آخر من الخبراء والمحققين. في تقريرها ذكرت اللجنة ما نصه: تبين أن رجال الشرطة أطلقوا أعيرة مطاطية وخرطوشا وذخيرة حية في مواجهة المتظاهرين أو بالقنص من أسطح المباني المطلة على ميدان التحرير، خاصة من مبني وزارة الداخلية ومن فوق فندق النيل هيلتون ومن فوق مبني الجامعة الأمريكية. وقد دل على ذلك أقوال من سئلوا في اللجنة ومن مطالعة التقارير الطبية التي أفادت ان الوفاة جاءت غالبا من أعيرة نارية وطلقات خرطوش في الرأس والرقبة والصدر، علما بأن إطلاق الأعيرة النارية لا يكون إلا بموجب إذن صادر من لجنة برئاسة وزير الداخلية وكبار ضباط الوزارة (الذين تمت تبرئتهم طبقا لحكم المحكمة).
في التقرير تفاصيل أخرى تدين الشرطة في حوادث القتل، إلا أن التقرير كله ــ الذي سبق ان أشرت إليه أكثر من مرة ــ تم تجاهله وأسقطته الأيدى الخفية من الحسبان ــ وقد ظل المستشار قورة على اتهامه للداخلية في حديث أجرته معه جريدة «الوطن» ونشر في 23/9/2012 وذكر فيه أن الداخلية لم تتعاون مع لجنة تقصى الحقائق، حتى انها حين طلبت حصرا بالذخيرة التي خرجت من مخازن الأمن المركزى منذ بداية الثورة وحتى يوم 18 فبراير، خصوصا ما خرج منها وما أعيد إلى المخازن، فإن الوزارة تجاهلت الطلب، ولم ترد.
في تفسير ذلك التباين نجد أمامنا شهادتين إحداهما تخاطب السياسة والثانية تخاطب التاريخ، ولكل مقام مقال.
السبيل 2014-12-01