حيدر محمود يكوثرفي ربوع «زمزم»
كانت أمسية جميلة ورائعة بل هي من أجمل الأمسيات وأروعها،عندما حل الشاعر حيدر محمود ضيفاً خفيف الظل في ربوع «زمزم»، أفاض على الحاضرين من رحيق شعره، ونثر على مسامعهم من أطايب ذكرياته، الممزوجة بالحنين والشوق العميق للأيام الخوالي، التي أمضاها مع باني الأردن الملك الراحل، ورفيق دربه الشهيد وصفي التل، فكانت محل تقدير واستماع بالغين، بصحبة الباحث الشاب الدكتور محمود الدباس.
لم أحظ بمجالسة الرجل قبل ذلك، ولكني كنت أتابعه عن بعد و أطرب لشعره الجزل، ولغته القوية، وما تكتنزه من معانٍ ومضامين ثرية؛ وهو يتغزل بالأردن، وعمان التي أرخت جدائلها، وعندما كنا شباباً وعلى مقاعد الدراسة في الجامعة، كنا نتداول قصائده المطبوعة وخاصة تلك القصيدة التي مطلعها عفا الصفا وانتفى يا مصطفى....، بمناسبة مئوية «عرار» التي كانت سبباً في عزله من موقعه، واصدار أمر باعتقاله، وقد نجّاه من الاعتقال الملك الراحل نفسه.
يروي الشاعر حيدر محمود قصة انشاء الإذاعة الأردنية في عهد المرحوم هزاع المجالي الذي استدعى وصفي التل للاشراف على بناء هذه المؤسسة الوليدة، حيث كان سفيراً في بغداد، ويقول كنا عائلة واحدة صغيرة نجتمع بشكل يومي على مائدة الإفطار المتواضعة، حيث كنا نحظى بزيارة شبه رسمية من جلالة الملك الراحل، وكان يشاركنا الإفطار على صحن حمص من مطعم هاشم، وعندما لم يجد سكيناً لقطع رأس البصل، أقدم على ضربه بيده ونحن نتبادل الضحكات في غاية الود والبساطة والتواضع.
يقول في معرض حديثه : لقد اختار الملك حسين وصفي التل ليكون رئيساً للحكومة لأنه كان يبحث عن شخصية قوية عنيدة، قادر على تحمل المسؤولية، وجريء في اتخاذ القرار، لا يعرف النفاق ولا المداهنة ولا التزلف، يمتاز بالذكاء، ويقدر المصلحة الوطنية العليا التي لا تعلوها مصلحة، وقد شكلا معاً ثنائياً عجيباً، أسهما في بناء الدولة واستقرارها، وتجاوزها للمخاطر والمحن الشديدة المحدقة بها في أصعب الظروف وأشدها حلكة.
حيدر محمود من مواليد الطيرة قضاء حيفا، التي توصف بأن أهلها الذين»قوسوا البحر»، ولكنه يعشق الأردن، ويطير هياماً في عمان، ويعشق تراب إربد، وسطّر ذلك في قصائد شعرية تفيض رقة وعذوبة، تشدو بها بلابل الصباح، ويصدح بها طائر الوروار على الصفصاف والدفلى وسيل حسبان، ومنحدرات راحوب وزقلاب ووادي الريان ، ولا يجد في ذلك غضاضة او تناقضا كما الذي يعشعش في عقول الاقزام والمرضى.
ظالم لنفسه وظالم للحقيقة من يزعم أن وصفي «إقليمي» متعصب، بل هو عروبي كبير من الأردن، أحب أمته ووطنه الكبير، ووطنه الصغير الأردن، وأحب فلسطين في الوقت نفسه، وقاتل في جيش الانقاذ وجرح، وأصيب في طلقة بقيت مستقرة في رجله لتكون شاهدة على صدق عروبته وانتمائه الكبير، الذي لا يتعارض مع حبه لبلده وانتمائه لشعبها الوفي، ويقول الشاعر في ذلك :
وصفي شهيد الضفتين وفيهما .... مهجٌ يصول بها الهوى، ويجولُ
وهو الفدائي الحقيقي الذي ..... ما مسه زيف ولا تضليل
وصدقت حد الموت، فالرائي ..... بلا عمر، وعمر المستكين طويل
يقول حيدر محمود :
شهد الأردن في عهد وصفي التل انشاء مؤسسات وطنية كبيرة برعاية الملك ودعمه، ما زالت ماثلة للعيان وشاهدة على الانجاز الكبير، مثل الجامعة الأردنية، ومدينة الحسين الطبية ومدينة الحسين الرياضية، وبذل جهداً كبيراً في إعادة تحريج واستنبات الغابات من أجل العودة بالأردن إلى الغطاء النباتي الذي كان يكسو أغلب جباله وتلاله الجرداء، وكان رفيقاً للمزارعين، ولكل من يعشق الأرض وتراب الوطن، وأراد أن يجعل من الشباب جيشاً رديفاً للقوات المسلحة، من خلال فكرة « معسكرات الحسين» التي يتدرب فيها الشباب على العمل والبذل واكتساب الخبرة، والتدريب على السلاح، مع تشرب الانتماء الوطني تشرباً عميقاً واصيلاً، يخالط الدم والروح، وفي الختام يقول شاعرنا:
ولست أبكيه بل أبكي الغالية ..... كان الشهيد لها أغلى مواضيها
أبكي على أمة تغتال أجمل من .... فيها وتحمي بأيديها أعاديها
كل التقدير والاعتزاز لشاعرنا الفحل الذي يمثل سجلاً توثيقيّاً للذاكرة الأردنية.
الدستور 2014-12-07